أما قوله : ( فاستبقوا الخيرات    ) فمعناه الأمر بالبدار إلى الطاعة في وقتها ، واعلم أن أداء الصلاة في أول الوقت  عند  الشافعي    - رضي الله عنه - أفضل ، خلافا  لأبي حنيفة  ، واحتج  الشافعي  بوجوه : 
أولها : أن الصلاة خير لقوله - صلى الله عليه وسلم - :   " الصلاة خير موضوع " وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديمه أفضل لقوله تعالى : ( فاستبقوا الخيرات    ) وظاهر الأمر للوجوب ، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب . 
وثانيها : قوله : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم    ) [ الحديد : 21 ] ومعناه إلى ما يوجب المغفرة ، والصلاة مما يوجب المغفرة  ، فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة . 
 [ ص: 121 ] وثالثها : قوله تعالى : ( والسابقون السابقون  أولئك المقربون    ) [ الواقعة : 10 ،11 ] ولا شك أن المراد منه السابقون في الطاعات ، ولا شك أن الصلاة من الطاعات ، وقوله تعالى : ( أولئك المقربون    ) يفيد الحصر ، فمعناه أنه لا يقرب عند الله إلا السابقون ، وذلك يدل على أن كمال الفضل منوط بالمسابقة    . 
ورابعها : قوله تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم    ) [ آل عمران : 133 ] والمعنى : وسارعوا إلى ما يوجب المغفرة ، ولا شك أن الصلاة كذلك ، فكانت المسارعة بها مأمورة    . 
وخامسها : أنه مدح الأنبياء المتقدمين بقوله تعالى : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات    ) [ الأنبياء : 90 ] ولا شك أن الصلاة من الخيرات  ، لقوله - عليه السلام - :   " خير أعمالكم الصلاة "   . 
وسادسها : أنه تعالى ذم إبليس في ترك المسارعة ، فقال : ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك    ) [ الأعراف : 12 ] وهذا يدل على أن ترك المسارعة موجب للذم    . 
وسابعها : قوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات    ) [ البقرة : 238 ] والمحافظة لا تحصل إلا بالتعجيل  ، ليأمن الفوت بالنسيان وسائر الأشغال . 
وثامنها : قوله تعالى حكاية عن موسى    - عليه السلام - : ( وعجلت إليك رب لترضى    ) [ طه : 84 ] فثبت أن الاستعجال أولى . 
وتاسعها : قوله تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا    ) [ الحديد : 10 ] فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة  فكذا في هذه الصورة . 
وعاشرها : ما روى عمر  ،  وجرير بن عبد الله  ، وأنس  ،  وأبو محذورة  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :   " الصلاة في أول الوقت  رضوان الله ، وفي آخره عفو الله " قال  الصديق    - رضي الله عنه -: رضوان الله أحب إلينا من عفوه   . 
قال  الشافعي    - رضي الله عنه -: رضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين ، فإن قيل هذا احتجاج في غير موضعه ؛ لأنه يقتضي أن يأثم بالتأخير ، وأجمعنا على أنه لا يأثم فلم يبق إلا أن يكون معناه أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة ، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله ، فكان التأخير موجبا للعفو والرضوان ، والتقديم موجبا للرضوان دون العفو ، فكان التأخير أولى ، قلنا : هذا ضعيف من وجوه : 
الأول : أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل ، وذلك لم يقله أحد . 
الثاني : أن عدم المسارعة إلى الامتثال يشبه عدم الالتفات ، وذلك يقتضي العقاب ، إلا أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء . 
الثالث : أن تفسير  أبي بكر الصديق    - رضي الله عنه - يبطل هذا التأويل الذي ذكروه . 
الحادي عشر : روي عن  علي بن أبي طالب    - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :   " يا علي ، ثلاث لا تؤخرها    : الصلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت لها كفؤا "   . 
الثاني عشر : عن ابن مسعود  أنه سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : أي الأعمال أفضل  ؟ فقال : الصلاة لميقاتها الأول   . 
الثالث عشر : روى  أبو هريرة  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :   " إن الرجل ليصلي الصلاة وقد فاته من أول الوقت   [ ص: 122 ] ما هو خير له من أهله وماله "   . 
الرابع عشر : قال - عليه السلام - :   " من سن سنة حسنة  فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فمن كان أسبق في الطاعة كان هو الذي سن عمل الطاعة في ذلك الوقت ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر من ثواب المتأخر . 
الخامس عشر : إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصحابة المسابقة إلى الإسلام ، حتى وقع الخلاف الشديد بين أهل السنة وغيرهم أن أبا بكر  أسبق إسلاما أم عليا  ، وما ذاك إلا اتفاقهم على أن المسابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل  وذلك يدل على قولنا . 
السادس عشر : قوله - عليه السلام - في خطبة له :   " وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا    " ولا شك أن الصلاة من الأعمال الصالحة . 
السابع عشر : أن تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها ، فوجب أن يكون الحال في أداء الله تعالى كذلك ، والجامع بينهما رعاية معنى التعظيم . 
الثامن عشر : أن المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة  ، والولوع بها ، والرغبة فيها ، وفي التأخير كسل عنها ، فيكون الأول أولى . 
التاسع عشر : أن الاحتياط في تعجيل الصلاة  ؛ لأنه إذا أداها في أول الوقت تفرغت ذمته ، فإذا أخر فربما عرض له شغل فمنعه عن أدائها فيبقى الواجب في ذمته ، فالوجه الذي يحصل فيه الاحتياط لا شك أنه أولى . 
العشرون : أجمعنا في صوم رمضان أن تعجيله أفضل من تأخيره؛ وذلك لأن المريض يجوز له أن يفطر ويؤخر الصوم ، ويجوز له أن يعجل ويصوم في الحال ، ثم أجمعنا على أن التعجيل في الصوم أفضل على ما قال : ( وأن تصوموا خير لكم    ) [ البقرة : 184 ] فوجب أيضا أن يكون التعجيل في الصلاة  أولى ، فإن قيل : تنتقض هذه الدلائل القياسية بالظهر في شدة الحر ، أو بما إذا حصل له رجاء إدراك الجماعة ، أو وجود الماء ، قلنا : التأخير ثبت في هذه المواضع لأمور عارضة ، وكلامنا في مقتضى الأصل . 
الحادي والعشرون : المسارعة إلى الامتثال أحسن في العرف من ترك المسارعة  ، فوجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله - عليه السلام - :   " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن "   . 
الثاني والعشرون : صلاة كملت شرائطها فوجب أداؤها في أول الوقت  ، كالمغرب ففيه احتراز عن الظهر في شدة الحر ؛ لأنه إنما يستحب التأخير إذا أراد أن يصليها في المسجد لأجل أن المشي إلى المسجد في شدة الحر كالمانع ، أما إذا صلاها في داره فالتعجيل أفضل ، وفيه احتراز عمن يدافع الأخبثين أو حضره الطعام وبه جوع لهذا المعنى أيضا ، وكذلك المتيمم إذا كان على ثقة من وجود الماء ، وكذلك إذا توقع حضور الجماعة فإن الكمال لم يحصل في هذه الصورة ، فهذه هي الأدلة الدالة على أن المسارعة أفضل ، ولنذكر كل واحد من الصلوات : 
أما صلاة الفجر  فقال محمد    : المستحب أن يدخل فيها بالتغليس ، ويخرج منها بالإسفار ، فإن أراد الاقتصار على أحد الوقتين فالإسفار أفضل ، وقال الشافعي - رضي الله عنه -: التغليس أفضل ، وهو مذهب أبي   [ ص: 123 ] بكر  وعمر  ، وبه قال مالك  ، وأحمد  ، واحتج  الشافعي    - رضي الله عنه - بعد الدلائل السالفة بوجوه : 
أحدها : ما أخرج في الصحيحين برواية  عائشة  رضي الله عنها أنها قالت :   " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي الصبح فينصرف والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس " قال محيي السنة في كتاب " شرح السنة " : متلفعات بمروطهن أي متجللات بأكسيتهن ، والتلفع بالثوب الاشتمال ، والمروط : الأردية الواسعة ، واحدها مرط ، والغلس : ظلمة آخر الليل ، فإن قيل : كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالغلس كيلا يعرفن ، وهكذا كان عمر    - رضي الله عنه - يصلي بالغلس ، ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك . قلنا : الأصل المرجوع إليه في إثبات جميع الأحكام عدم النسخ ، ولولا هذا الأصل لما جاز الاستدلال بشيء من الدلائل الشرعية . 
وثانيها : ما أخرج في الصحيحين عن قتادة  ، عن أنس  ، عن  زيد بن ثابت  ، قال تسحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قمنا إلى الصلاة ، قال قلت : كم كان قدر ذلك ، قال : قدر خمسين آية ، وهذا يدل أيضا على التغليس . 
وثالثها : ما روي عن أبي مسعود الأنصاري  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلس بالصبح ، ثم أسفر مرة ، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى   . 
ورابعها : أنه تعالى مدح المستغفرين بالأسحار فقال : ( والمستغفرين بالأسحار    ) [ آل عمران : 17 ] ومدح التاركين للنوم فقال : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا    ) [ السجدة : 16 ] وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ترك النوم بأداء الفرائض أفضل لقوله - عليه السلام - حكاية عن الله :   " لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون التغليس أفضل . 
وخامسها : أن النوم في ذلك الوقت أطيب ، فيكون تركه أشق ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر ، لقوله - عليه السلام - :   " أفضل العبادات أحمزها " أي أشقها ، واحتج  أبو حنيفة  بوجوه : 
أحدها : قوله - عليه السلام - :   " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر "   . 
وثانيها : روى  عبد الله بن مسعود  أنه صلى الفجر بالمزدلفة  فغلس ، ثم قال ابن مسعود    : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلوات إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر ، فإنه صلاها يومئذ لغير ميقاتها   . 
وثالثها : عن ابن مسعود  قال : ما رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر   . 
ورابعها : عن أبي بكر    - رضي الله عنه - أنه صلى الفجر فقرأ آل عمران ، فقالوا : كادت الشمس أن تطلع ، فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين ، وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين   . 
وخامسها : أن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار ، وقال - عليه السلام - :   " المنتظر للصلاة كمن هو في الصلاة " فمن أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولا ثم بها ثانيا ، ومن صلاها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار . 
وسادسها : أن التأخير يفضي إلى كثرة الجماعة فوجب أن يكون أولى تحصيلا لفضل الجماعة . 
وسابعها : أن التغليس يضيق على الناس ؛ لأنه إذا كان الصلاة في وقت التغليس احتاج الإنسان إلى أن يتوضأ بالليل حتى يتفرغ للصلاة بعد طلوع الفجر ، والحرج منفي شرعا . 
وثامنها : أنه تكره الصلاة بعد صلاة الفجر ، فإذا صلى وقت الإسفار فإنه يقل وقت الكراهة ، وإذا صلى بالتغليس فإنه يكثر وقت الكراهة . 
والجواب عن الأول : أن الفجر اسم للنور الذي ينفى به ظلام المشرق ، فالفجر إنما يكون فجرا لو كانت الظلمة باقية في الهواء ، فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجرا ، وأما الإسفار فهو   [ ص: 124 ] عبارة عن الظهور ، يقال : أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت عنه ، إذا ثبت هذا فنقول : ظهور الفجر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء ، فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد ، فقوله :   " أسفروا بالفجر " يجب أن يكون محمولا على التغليس ، أي كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر أظهر وأبهر كان أكثر ثوابا ، وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر ، وهذا معنى قول  الشافعي    - رضي الله عنه - أن الإسفار المذكور في الحديث محمول على تيقن طلوع الفجر وزوال الشك عنه ، والذي يدل على ما قلنا أن أداء الصلاة في ذلك الوقت أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثوابا ، وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير فهو عادة أهل الكسل ، فكيف يمكن أن يقول الشارع : إن الكسل أفضل من الجد في الطاعة . 
والجواب عن الثاني : وهو قول ابن مسعود    : حافظوا على التنوير بالفجر ، فجوابه هذا الذي قررناه لأن التنوير بالفجر إنما يحصل في أول الوقت ، فأما عند امتلاء العالم من النور فإنه لا يسمى ذلك فجرا ، وأما سائر الوجوه فهي معارضة ببعض ما قدمناه والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					