الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : احتج جمهور الأصحاب وجمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا : أخبر الله تعالى عن عدالة هذه الأمة وعن خيريتهم فلو أقاموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة ، فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ، لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة ، فلا بد من حملها على البعض فنحن نحملها على الأئمة المعصومين ، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل العبد وقد أخبر الله تعالى أن جعلهم وسطا فاقتضى ذلك أن كونهم وسطا من فعل الله تعالى ، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطا غير كونهم عدولا وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الوسط اسم لما يكون متوسطا بين شيئين ، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك وهو خلاف الأصل ، سلمنا اتصافهم بالخيرية ولكن لم لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط ، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم ، ومما يؤكد هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولا ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة ، سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن اتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس ، معلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل ، وذلك لا نزاع فيه ، لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلت إنهم في الدنيا كذلك ؟ سلمنا وجوب كونهم عدولا في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد محال وإذا كان كذلك فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا تقتضي عدالة غيرهم ، فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك لا يمكن إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم وعلمنا بقاء كل واحد منهم إلى ما بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ولما كان ذلك كالمتعذر امتنع التمسك بالإجماع .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 91 ] والجواب عن قوله : الآية متروكة الظاهر ، قلنا : لا نسلم ، فإن قوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) يقتضي أنه تعالى جعل كل واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة ، وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه فإن كل واحد منهم يكون عدلا في ذلك الأمر ، بل إذا اختلفوا فعند ذلك قد يفعلون القبيح ، وإنما قلنا : إن هذا خطاب معهم حال الاجتماع ؛ لأن قوله : ( جعلناكم ) خطاب لمجموعهم لا لكل واحد منهم وحده ، على أنا وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد منهم عدلا ، لكنا نقول : ترك العمل به في حق البعض لدليل قام عليه ، فوجب أن يبقى معمولا به في حق الباقي وهذا معنى ما قال العلماء : ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك ، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة ، فإذا كنا لا نعلم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماع جماعتهم على القول والفعل ، لكي يدخل المعتبرون في جملتهم ، مثاله : أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - إذا قال : إن واحدا من أولاد فلان لا بد وأن يكون مصيبا في الرأي والتدبير ، فإذا لم نعلمه بعينه ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقا ؛ لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق ، فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقا ؛ لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد الذي خالف ، ولهذا قال كثير من العلماء : إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيبا عمن كان مخطئا كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر البتة بقول المخطئ .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله : لو كان المراد من كونهم وسطا هو المراد من عدالتهم ، لزم أن يكون فعل العبد خلقا لله تعالى ، قلنا : هذا مذهبنا على ما تقدم بيانه .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله : لم قلتم : إن إخبار الله تعالى عن عدالتهم وخيريتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر ؟ قلنا : خبر الله تعالى صدق ، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه ، وفعل الصغيرة ليس بخير ، فالجمع بينهما متناقض ، ولقائل أن يقول : الإخبار عن الشخص بأنه خير أعم من الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور ، أو في بعض الأمور ، ولذلك فإنه يصح تقسيمه إلى هذين القسمين فيقال : الخير إما أن يكون خيرا في بعض الأمور دون البعض أو في كل الأمور ، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين ، فمن كان خيرا من بعض الوجوه دون البعض ، يصدق عليه أنه خير ، فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره تعالى عن خيريتهم في كل الأمور ، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلا عن الصغائر ، وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه ، إلا أن هذا السؤال وارد عليها ، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها ، من كان منهم موجودا وقت نزول هذه الآية ، ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة ، كما أن قوله : ( كتب عليكم القصاص ) [ البقرة : 178 ] ، ( كتب عليكم الصيام ) [ البقرة : 183 ] يتناول الكل ، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت ، وكذلك سائر تكاليف الله تعالى وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة ، فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطابا لجميع من يوجد إلى قيام الساعة ، فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم ؟ قلنا : لأنه تعالى لما جعلهم شهداء على الناس ، فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه ، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر ، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة ، فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة ، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ولأنه تعالى قال : ( أمة وسطا ) فعبر عنهم بلفظ النكرة ، ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية