[ ص: 361 ] مسألة : ( والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات ، فإن فعل فهو محرم . 
مذهب أحمد  أن الأفضل أن لا يحرم بالحج ولا بالعمرة حتى يبلغ الميقات  ، قال في رواية  الأثرم  وقد سئل أيما أعجب إليك : يحرم من الميقات أم قبل ؟ فقال : من الميقات أعجب إلي . 
قيل له وسئل في رواية ابن منصور    : إنهم كانوا يحبون أن يحرم الرجل أول ما يحج من بيته ، أو من بيت المقدس أو من دون الميقات ، فقال : وجه العمل المواقيت . 
وكذلك قال عبد الله    : قرأت على أبي : كانوا يحبون أن يحرم الرجل أول ما يحج من بيته أو من بيت المقدس أو من دون الميقات ، فقال : وجه العمل المواقيت . 
وقال في رواية محمد بن الحسن بن هارون    : إذا أحرم الرجل أحرم من ميقات أعجب إلي ، ولا يحرم من قبل الميقات فإن أحرم قبل الميقات انعقد إحرامه . 
 [ ص: 362 ] قال ابن المنذر    : أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات  أنه محرم . 
قال بعض أصحابنا : يكره الإحرام قبل الميقات ، وقال أكثرهم : لا يكره وهو المنصوص عنه ، قال حرب : قلت لأحمد    : الرجل يحرم قبل الميقات ؟ قال : قد فعل ذلك قوم ، وكأنه سهل فيه . 
وقال في رواية صالح    : إن قوي على ذلك أرجو أن لا يكون فيه بأس . 
وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج حجة الوداع هو وعامة المسلمين ،   [ ص: 363 ] واعتمر عمرة الحديبية وعمرة القضاء هو وخلق كثير من أصحابه ، وفي كل ذلك يحرم هو والمسلمون من الميقات ولم يندب أحدا إلى الإحرام قبل ذلك ولا رغب فيه ولا فعله أحد على عهده ، فلو كان ذلك أفضل لكان أولى الخلق بالفضائل أفضل الخلائق وخير القرون ولو كان خيرا لسبقونا إليه وكانوا به أولى ، وبفضل - لو كان فيه - أحرى ، ولندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك كما ندب إلى جميع الفضائل ؛ إذ هو القائل : " وما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد أمرتكم به ، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد نهيتكم عنه   " . 
فإن قيل : فعل ذلك ؛ لأنه أيسر فتقتدي الأمة به وقد يختار غير الأفضل للتعليم . 
 [ ص: 364 ] قيل : قد أحرم عدة مرات مع أن العمرة لا تجب إلا مرة فقد كان الجواز والبيان يحصل بمرة واحدة ، فلما أحرم فيها كلها على وجه واحد علم أنه أحب إلى الله . 
ولأنه قد كرر العمر مع أنه ليس عليه إلا عمرة واحدة ، فزيادة موضع الإحرام لو كان فيه فضل أولى من ذلك وأيسر . 
ولأن ذلك إنما يكون في الفعل الذي يتكرر ، فيفعل المفضول مرات لبيان الجواز كالصلاة في آخر الوقت ، فأما ما لا يفعله إلا مرة واحدة فما كان الله ليختار لرسوله أدنى الأمرين ويدخر لمن بعده أفضلهما ، وفاعل هذا وقائله يخاف عليه الفتنة . 
وقد سئل مالك  عمن أحرم قبل الميقات فقال : أخاف عليه الفتنة [ قيل له : وأي فتنة ] في ذلك وإنما هي زيادة أميال ؟ فقال : وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك خصصت بأمر لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لو كان الفضل في غير ذلك لبينه للمؤمنين ، ولدلهم عليه إذ هو أنصح الخلق للخلق ،   [ ص: 365 ] وأرحم الخلق بالخلق ، كما دلهم على الأعمال الفاضلة ، وإن كان فيها مشقة كالجهاد وغيره . 
وكونه أيسر قد يكون مقتضيا لفضله ، كما أن صوم شطر الدهر أفضل من صيامه كله وقيام الليل أفضل من قيامه كله ، والتزوج وأكل ما أباحه الله أفضل من تحريم ما أحل الله ، والله - عز وجل - يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته . 
وأيضا فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - :   " يهل أهل المدينة  من ذي الحليفة     " وقول الصحابة :   " وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة  من ذي الحليفة    " أمر بالإهلال من هذه المواقيت ، وهذا التوقيت يقتضي نفي الزيادة والنقص ، فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن يكون تركها أفضل . 
وأيضا ما روي عن أبي سورة عن أبي أيوب  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :   [ ص: 366 ]   ( ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في حرمته   ) رواه أبو كريب   وأبو يعلى الموصلي  ، وقد روى  الترمذي   وابن ماجه  بمثل إسناده ، لكن أبو سورة ضعفوه . 
وأيضا فإن المكان أحد الوقتين ، فلم يكن الإحرام قبله مستحبا كالزمان ؛ ولأن الأصل أن الزيادة على المقدرات من المشروعات كإعداد الصلاة ورمي الجمرات ونحو ذلك لا يشرع كالنقص منه ، فإذا لم تكن الزيادة مكروهة فلا أقل من أن لا يكون فيها فضل . 
 [ ص: 367 ] وأيضا فإن الترفه بالحل قبل الميقات رخصة ، كالأكل بالليل في زمان الصوم ، والله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته . 
وأيضا فإن في زيادة الإحرام على ما وجب تعريضا لأخطار الإحرام ؛ من مواقعة المحظورات وملالة النفس ، فكان الأولى السلامة ، كما سئل  ابن عباس  عن رجل قليل الطاعة قليل المعصية ، ورجل كثير الطاعة كثير المعصية ، فقال : " لا أعدل بالسلامة شيئا   " ، وطرد هذا عند أصحابنا أنه لا يستحب الإحرام بالحج للمتمتع قبل يوم التروية  ، وإنما استحببنا للمعتمر أن يخرج إلى المواقيت فيحرم منها ؛ لأنه ميقات شرعي . 
فإن قيل : فقد قال الله ( وأتموا الحج والعمرة لله    ) قال علي   وابن مسعود    : " تمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك " . 
وعن  أم سلمة  رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من أهل من المسجد الأقصى  بعمرة أو بحجة  غفر له ما تقدم من ذنبه   ) رواه أحمد  ، وفي لفظ له : ( من أحرم من بيت المقدس غفر له ما   [ ص: 368 ] تقدم من ذنبه   )  وأبو داود  ولفظه : ( ومن أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، أو وجبت له الجنة   ) شك الراوي ،  وابن ماجه  ولفظه : ( من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب   ). 
وقد أحرم جماعة من الصحابة من فوق المواقيت ، فعن  ابن عمر    " أنه أحرم عام الحكمين من بيت المقدس " وعنه : " أنه أحرم من بيت المقدس بعمرة ثم قال بعد ذلك : لوددت أني لو جئت بيت المقدس فأحرمت منه " . 
وعن  أنس بن مالك    " أنه أحرم من العقيق " رواهما سعيد    . 
 [ ص: 369 ] وقد قيل : أهل  ابن عباس  من الشام  ، وأهل  عمران بن حصين  من البصرة  ، وأهل  ابن مسعود  من القادسية  ، وقال إبراهيم    : كانوا يحبون أول ما يحج الرجل أو يعتمر أن يحرم من أرضه التي يخرج منها ، ولأن الإحرام عبادة  ، وتركه عادة ، والعبادات أفضل من العادات . 
قيل : أما أثر علي  رضي الله عنه فقد رواه سعيد  وحرب وغيرهما عن عبد الله بن سلمة  عن علي  أن رجلا سأله عن هذه الآية : ( وأتموا الحج والعمرة لله     ) قال : " إن إتمامها أن تحرم من دويرة أهلك   " قال حرب    : سمعت أحمد  يقول : قال  سفيان بن عيينة  في تفسير الحديث : " أن تحرم من دويرة أهلك " قال : هو أن ينشئ سفرها من أهله ، وقال أحمد  في رواية ابن الحكم  وقد سئل عن الحديث " أن تحرم من دويرة أهلك " قال : ينشئ لها سفرا من أهله ؛ كأنه يخرج للعمرة عامدا ، كما يخرج للحج عامدا ، وهذا مما يؤكد أمر العمرة . 
 [ ص: 370 ] والذي يدل على هذا التفسير ما روى عبد الرحمن بن أذينة  عن أبيه قال :   " أتيت  عمر بن الخطاب  رضي الله عنه فسألته عن تمام العمرة فقال : ائت عليا  فسله فعدت فسألته فقال : ائت عليا  عليه السلام فسله ، فأتيت عليا  فقلت : إني قد ركبت الخيل والإبل والسفن ، فأخبرني عن تمام العمرة فقال : تمامها أن تنشئها من بلادك ، فعدت إلى عمر  فسألته فقال : ألم أقل لك : ائت عليا  فسله ، فقلت : قد سألته فقال : تمامها أن تنشئها من بلادك ، قال : هو كما قال " رواه سعيد  وذكره أحمد  ، وقال : قال علي    : " أحرم من دويرة أهلك " فقد توافق عمر  وعلي  رضي الله عنهما على أن تمامها أن ينشئها من بلده ، فيسافر لها سفرا مفردا كسفر الحج كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أنشأ لعمرة الحديبية والقضية سفرا من بلده ، وهذا مذهبنا فإن العمرة التي ينشئ   [ ص: 371 ] لها سفرا من مصره أفضل من عمرة المتمتع وعمرة المحرم والعمرة من المواقيت ، وهذا هو الذي كان يقصده عمر بنهيهم عن المتعة أن ينشئوا للعمرة سفرا آخر . 
فأما أن يراد به الدخول في الإحرام من المصر فكلا ؛ لأن عمر  قد زجر عن ذلك ، وعلي  لم يفعله قط هو ولا أحد من الخلفاء الراشدين ، بل لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكون التمام الذي أمر الله به لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من خلفائه ولا جماهير أصحابه . 
وقوله : " أن تحرم من أهلك " كما يقال : تحج من أهلك وتعتمر من أهلك لمن سافر سفر الحج ، وإن كان لا يصير حاجا ولا معتمرا حتى يهل بهما كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله   ) . 
 [ ص: 372 ] ولهذا كره جماعة من السلف أن يطلق عليه ذلك ، قال  عبد الله بن مسعود    : " من أراد منكم هذا الوجه فلا يقولن : إني حاج ولكن ليقل : إني وافد ، فإنما الحاج المحرم " وفي رواية عنه : " لا يقول أحدكم إني حاج وإنما الحاج المحرم ، ولكن يقول : أريد الحج ، ولا يقولن أحدكم إني صرورة فإن المسلم ليس بصرورة   " . 
وعن عاصم  الأحول قال : " سمعت  أنسا  يقول : لا تقل إني حاج حتى تهل ، ولكن لتقل إني مسافر ، فذكرت ذلك لأبي العالية  فقال : صدق  أنس  ، أوليس إن شاء رجع من الطريق   " رواهما سعيد    . 
تقديره أن تقصد الإحرام والإهلال من أهلك وتنشئ سفرهما من أهلك . 
وأما حديث بيت المقدس  ، فقد قيل : هو مخصوص به فيكون الإحرام   [ ص: 373 ] من بيت المقدس  أفضل خصوصا لأنه يعمر ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى بالعبادة ، وهما أولى مساجد الأرض وبينهما كان مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما القبلتان ، ومنهما المبدأ والمعاد فإن الأرض دحيت من تحت الكعبة وتعاد من تحت الصخرة ، وعامة الأنبياء الكبار بعثوا من بينهما ، ويدل على ذلك إهلال  ابن عمر  منه ولم يفعل ذلك في حجه وعمرته من المدينة    . 
وظاهر كلام أحمد  في رواية ابن منصور    : إن الإحرام من الميقات أفضل من بيت المقدس  ، وكذلك ذكر القاضي وغيره من أصحابنا ، ثم منهم من ضعف الحديث . 
وتأوله القاضي : على أن ينشئ السفر من بيت المقدس ويكون الإحرام من   [ ص: 374 ] الميقات وفيه نظر . 
وأما من أحرم من الصحابة قبل المواقيت فأكثر منهم عددا وأعظم منهم قدرا لم يحرموا إلا من المواقيت ، وقد أنكروه بالقول ، فروى الحسن    : " أن  عمران بن حصين  أحرم من البصرة  فبلغ ذلك عمر  رضي الله عنه فغضب وقال : " يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم من مصره   " . 
وعن الحسن    : " أن عبد الله بن عامر  أحرم من خراسان  فلما قدم على عثمان  رضي الله عنه لامه فيما صنع وكرهه له   " رواهما سعيد .  
 [ ص: 375 ] قال  البخاري    : وكره عثمان  رضي الله عنه أن يحرم من خراسان  أو كرمان    . 
وفي رواية في حديث عمران    : " فقدم على عمر  فأغلظ له وقال : يتحدث الناس أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم من مصر من الأمصار " . 
وعن مسلم أبي سلمان    : " أن رجلا أحرم من الكوفة  فرأى عمر  سيئ الهيئة ، فأخذ بيده وجعل يديره في الخلق ويقول: انظروا إلى هذا ما صنع بنفسه وقد وسع الله عليه " . 
وعن  أبي ذر  قال : " استمتعوا بثيابكم فإن ركابكم لا تغني عنكم من الله   [ ص: 376 ] شيئا رواهن النجاد    . 
				
						
						
