مسألة . 
كل مسألة فيها قولان  للشافعي    - رحمه الله - قديم وجديد  ، فالجديد هو الصحيح وعليه العمل ; لأن القديم مرجوع عنه ، واستثنى جماعة من أصحابنا نحو عشرين مسألة أو أكثر ، وقالوا : يفتى فيها بالقديم ، وقد يختلفون في كثير منها ، قال إمام الحرمين  في النهاية في باب المياه ، وفي باب الأذان ، قال الأئمة : كل قولين قديم وجديد ، فالجديد أصح إلا في ثلاث مسائل . مسألة التثويب في أذان الصبح ، القديم : استحبابه ، ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير ، القديم : أنه لا يشترط ، ولم يذكر الثالثة هنا . وذكر في مختصر النهاية : أن الثالثة تأتي في زكاة التجارة . وذكر في النهاية عند ذكره قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين أن القديم أنه لا يستحب قال : وعليه العمل ، وذكر بعض المتأخرين من أصحابنا : أن المسائل التي يفتى بها على القديم أربع عشرة ، فذكر الثلاث المذكورات ، ومسألة الاستنجاء بالحجر فيما  [ ص: 109 ] جاوز المخرج ، والقديم جوازه . ومسألة لمس المحارم ، والقديم : لا ينقض . ومسألة الماء الجاري ، القديم : لا ينجس إلا بالتغير . ومسألة تعجيل العشاء ، القديم : أنه أفضل ، ومسألة وقت المغرب . 
والقديم : امتداده إلى غروب الشفق . ومسألة المنفرد إذا نوى الاقتداء في أثناء الصلاة ، القديم : جوازه . ومسألة أكل جلد الميتة المدبوغ ، القديم : تحريمه . ومسألة وطء المحرم بملك اليمين ، القديم : أنه يوجب الحد . ومسألة تقليم أظفار الميت ، القديم كراهته . ومسألة شرط التحلل من الإحرام بمرض ونحوه ، القديم : جوازه . ومسألة اعتبار النصاب في الزكاة ، القديم : لا يعتبر . 
وهذه المسائل التي ذكرها هذا القائل ليست متفقا عليها ، بل خالف جماعات من الأصحاب في بعضها أو أكثرها ، ورجحوا الجديد ، ونقل جماعات في كثير منها قولا آخر في الجديد يوافق القديم ، فيكون العمل على هذا الجديد لا القديم . وأما حصره المسائل التي يفتى فيها على القديم في هذه فضعيف أيضا ، فإن لنا مسائل أخر صحح الأصحاب أو أكثرهم أو كثير منهم فيها القديم ، منها الجهر بالتأمين للمأموم في صلاة جهرية ، القديم : استحبابه ، وهو الصحيح عند الأصحاب ، وإن كان القاضي  حسين  قد خالف الجمهور فقال في تعليقه : القديم : أنه لا يجهر ، ومنها من مات وعليه صوم ، القديم : يصوم عنه وليه ، وهو : الصحيح عند المحققين للأحاديث الصحيحة فيه ، ومنها استحباب الخط بين يدي المصلي إذا لم يكن معه عصا ونحوها ، القديم : استحبابه وهو الصحيح عند المصنف  وجماعات . 
ومنها إذا امتنع أحد الشريكين من عمارة الجدار ، أجبر على القديم ، وهو الصحيح عند ابن الصباغ  وصاحبه الشاشي  ، وأفتى به الشاشي  ، ومنها الصداق في يد الزوج مضمون ضمان اليد على القديم ، وهو الأصح عند الشيخ  أبي حامد  وابن الصباغ  والله أعلم . ثم إن أصحابنا أفتوا بهذه المسائل من القديم ، مع أن  الشافعي  رجع عنه ، فلم يبق مذهبا له ، هذا هو الصواب الذي قاله المحققون ، وجزم به المتقنون من أصحابنا وغيرهم ، وقال بعض أصحابنا : إذا نص المجتهد على خلاف قوله لا يكون رجوعا عن الأول ، بل يكون له قولان . قال الجمهور : هذا غلط ; لأنهما كنصين للشارع تعارضا وتعذر الجمع بينهما ، يعمل بالثاني ويترك الأول ، قال إمام الحرمين في باب الآنية من النهاية : معتقدي أن الأقوال القديمة ليست من مذهب  الشافعي  حيث كانت ; لأنه جزم في الجديد بخلافها ، والمرجوع عنه ليس مذهبا للراجع ; فإذا علمت حال  [ ص: 110 ] القديم ووجدنا أصحابنا أفتوا بهذه المسائل على القديم ، حملنا ذلك على أنه أداهم اجتهادهم إلى القديم ، لظهور دليله وهم مجتهدون ، فأفتوا به ولا يلزم من ذلك نسبته إلى  الشافعي  ، ولم يقل أحد من المتقدمين في هذه المسائل أنها مذهب  الشافعي  ، أو أنه استثناها . 
قال  أبو عمرو    : فيكون اختيار أحدهم للقديم فيها من قبيل اختياره مذهب غير  الشافعي  إذا أداه اجتهاده إليه ، فإنه إن كان ذا اجتهاد اتبع اجتهاده ، وإن كان اجتهاده مقيدا مشوبا بتقليد ، نقل ذلك الشوب من التقليد عن ذلك الإمام ، وإذا أفتى بين ذلك في فتواه ، فيقول : مذهب  الشافعي  كذا ، ولكني أقول : بمذهب  أبي حنيفة  وهو كذا . قال  أبو عمرو    : ويلتحق بذلك ما إذا اختار أحدهم القول المخرج على القول المنصوص ، أو اختار من قولين رجح  الشافعي  أحدهما غير ما رجحه ، بل هذا أولى من القديم . 
قال : ثم حكم من لم يكن أهلا للترجيح أن لا يتبعوا شيئا من اختياراتهم المذكورة ; لأنه مقلد  للشافعي  دون غيره . قال : وإذا لم يكن اختياره لغير مذهب إمامه بنى على اجتهاد ، فإن ترك مذهبه إلى أسهل منه فالصحيح : تحريمه ، وإن تركه إلى أحوط ، فالظاهر جوازه ، وعليه بيان ذلك في فتواه . هذا كلام  أبي عمرو    . 
فالحاصل أن من ليس أهلا للتخريج يتعين عليه العمل والإفتاء بالجديد من غير استثناء ، ومن هو أهل للتخريج والاجتهاد في المذهب يلزمه اتباع ما اقتضاه الدليل في العمل والفتيا ، مبينا في فتواه : أن هذا رأيه وأن مذهب  الشافعي  كذا ، وهو ما نص عليه في الجديد . هذا كله في قديم لم يعضده حديث صحيح ، أما قديم عضده نص حديث صحيح لا معارض له ، فهو مذهب  الشافعي    - رحمه الله - ومنسوب إليه إذا وجد الشرط الذي قدمناه ، فيما إذا صح الحديث على خلاف نصه ، والله أعلم . واعلم : أن قولهم : القديم ليس مذهبا  للشافعي  ، أو مرجوع عنه ، أو لا فتوى عليه ، المراد به قديم نص في الجديد على خلافه ، أما قديم لم يخالفه في الجديد أو لم يتعرض لتلك المسألة في الجديد ، فهو مذهب  الشافعي  واعتقاده ، ويعمل به ويفتى عليه ، فإنه قاله ولم يرجع عنه ، وهذا النوع وقع منه مسائل كثيرة ستأتي في مواضعها إن شاء الله ، وإنما أطلقوا : أن القديم مرجوع عنه ولا عمل عليه لكون غالبه كذلك . 
				
						
						
