ومن آدابه وآداب تعليمه    : اعلم أن التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين ، وبه يؤمن إمحاق العلم ، فهو من أهم أمور الدين ، وأعظم العبادات ، وآكد فروض الكفايات ، قال الله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه    } وقال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا    } الآية . 
وفي الصحيح من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليبلغ الشاهد منكم الغائب   } والأحاديث بمعناه كثيرة ، والإجماع منعقد عليه . ويجب على المعلم أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى لما سبق ، وألا يجعله وسيلة إلى غرض دنيوي ، فيستحضر المعلم في ذهنه كون التعليم آكد العبادات ، لكون ذلك حاثا له على تصحيح النية ، ومحرضا له . على صيانته من مكدراته ومن مكروهاته ، مخافة فوات هذا الفضل العظيم ، والخير الجسيم . قالوا : وينبغي أن لا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية  ، فإنه يرجى له حسن النية ، وربما عسر في كثير من المبتدئين بالاشتغال تصحيح النية لضعف نفوسهم ، وقلة أنسهم بموجبات تصحيح النية ، فالامتناع من تعليمهم يؤدي إلى تفويت كثير من العلم مع أنه يرجى ببركة العلم تصحيحه إذا أنس بالعلم . 
وقد قالوا : طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله ، معناه كانت عاقبته أن صار لله ، وينبغي أن يؤدب المتعلم على التدريج بالآداب السنية ، والشيم المرضية ، ورياضة نفسه بالآداب والدقائق الخفية ، وتعوده الصيانة في جميع أموره الكامنة والجلية . 
 [ ص: 58 ] فأول ذلك أن يحرضه بأقواله وأحواله المتكررات ، على الإخلاص والصدق وحسن النيات ، ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات ، وأن يكون دائما على ذلك حتى الممات ، ويعرفه أن بذلك تنفتح عليه أبواب المعارف ، وينشرح صدره وتنفجر من قلبه ينابيع الحكم واللطائف ، ويبارك له في حاله وعلمه ، ويوفق للإصابة في قوله وفعله وحكمه ، ويزهده في الدنيا ، ويصرفه عن التعلق بها ، والركون إليها ، والاغترار بها ، ويذكره أنها فانية ، والآخرة آتية باقية ، والتأهب للباقي ، والإعراض عن الفاني . هو طريق الحازمين ، ودأب عباد الله الصالحين . 
وينبغي أن يرغبه في العلم  ويذكره بفضائله وفضائل العلماء ، وأنهم ورثة الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا رتبة في الوجوه أعلى من هذه . وينبغي أن يحنو عليه ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده ، ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه ، والاهتمام بمصالحه ، والصبر على جفائه وسوء أدبه ، ويعزره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان ، فإن الإنسان معرض للنقائص ، وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من الخير ، ويكره له ما يكرهه لنفسه من الشر ، ففي الصحيحين : { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه   } . وعن  ابن عباس  رضي الله عنهما قال : " أكرم الناس علي ، جليسي الذي يتخطى الناس ، حتى يجلس إلي ، لو استطعت ألا يقع الذباب على وجهه لفعلت " وفي رواية : " إن الذباب يقع عليه فيؤذيني " وينبغي أن يكون سمحا يبذل ما حصله من العلم سهلا بإلقائه إلى مبتغيه ، متلطفا في إفادته طالبيه ، مع رفق ونصيحة وإرشاد إلى المهمات وتحريض على حفظ ما يبذله لهم من الفوائد النفيسات ، ولا يدخر عنهم من أنواع العلم شيئا يحتاجون إليه إذا كان الطالب أهلا لذلك ، ولا يلقي إليه شيئا لم يتأهل له . لئلا يفسد عليه ، فلو سأله المتعلم عن ذلك لم يجبه ، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه ، وأنه لم يمنعه ذلك شحا ، بل شفقة ولطفا . 
وينبغي أن لا يتعظم على المتعلمين ، بل يلين لهم ويتواضع ، فقد أمر بالتواضع لآحاد الناس ، قال الله تعالى : { واخفض جناحك للمؤمنين    } عن عياض بن حمار  رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله أوحى إلي أن تواضعوا   } رواه  مسلم  ، وعن  أبي هريرة  رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله   } رواه  مسلم    . 
 [ ص: 59 ] فهذا في التواضع لمطلق الناس ، فكيف بهؤلاء الذين هم كأولاده مع ما هم عليه من الملازمة لطلب العلم ، ومع ما لهم عليه من حق الصحبة ، وترددهم إليه واعتمادهم عليه ؟ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم { لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه   } وعن  الفضيل بن عياض    - رحمه الله - : " إن الله - عز وجل - يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبار ، ومن تواضع لله تعالى ورثه الحكمة " . 
وينبغي أن يكون حريصا على تعليمهم مهتما به مؤثرا له على حوائج نفسه  ومصالحه ما لم تكن ضرورة ، ويرحب بهم عند إقبالهم إليه ، لحديث  أبي سعيد  السابق ، ويظهر لهم البشر وطلاقة الوجه ، ويحسن إليهم بعلمه وماله وجاهه بحسب التيسير ، ولا يخاطب الفاضل منهم باسمه بل بكنيته ونحوها ، ففي الحديث عن  عائشة  رضي الله عنها { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكني أصحابه إكراما لهم وتسنية لأمورهم   } وينبغي أن يتفقدهم ويسأل عمن غاب منهم  ، وينبغي أن يكون باذلا وسعه في تفهيمهم ، وتقريب الفائدة إلى أذهانهم ، حريصا على هدايتهم ، ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه فلا يعطيه ما لا يحتمله ، ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة ، ويخاطب كل واحد على قدر درجته ، وبحسب فهمه وهمته ، فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهما محققا ، ويوضح العبارة لغيره ، ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار ، ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا ينحفظ له الدليل ، فإن جهل دليل بعضها ذكره له ، ويذكر الدلائل لمحتملها ، ويذكر : هذا ما بينا ، على هذه المسألة وما يشبهها ، وحكمه حكمها وما يقاربها ، وهو مخالف لها ، ويذكر الفرق بينهما ، ويذكر ما يرد عليها وجوابه إن أمكنه . 
ويبين الدليل الضعيف ، لئلا يغتر به فيقول : استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا ، ويبين الدليل المعتمد ليعتمد ، ويبين له ما يتعلق بها من الأصول والأمثال والأشعار واللغات ، وينبههم على غلط من غلط فيها من المصنفين ، فيقول مثلا : هذا هو الصواب ، وأما ما ذكره فلان فغلط أو فضعيف ، قاصدا النصيحة ; لئلا يغتر به ، لا لتنقص للمصنف . 
ويبين له على التدريج قواعد المذهب  التي لا تنخرم غالبا ، كقولنا : إذا اجتمع سبب  [ ص: 60 ] ومباشرة قدمنا المباشرة ، وإذا اجتمع أصل وظاهر ففي المسألة غالبا قولان ، وإذا اجتمع قولان : قديم وجديد فالعمل غالبا بالجديد إلا في مسائل معدودة ، سنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى . 
وأن من قبض شيئا لغرضه ، لا يقبل قوله في الرد إلى المالك ، ومن قبضه لغرض المالك قبل قوله في الرد إلى المالك لا إلى غيره ، وأن الحدود تسقط بالشبهة ، وأن الأمين إذا فرط ضمن ، وأن العدالة والكفاية شرط في الولايات ، وأن فرض الكفاية إذا فعله من يحصل به المطلوب سقط الحرج عن الباقين وإلا أثموا كلهم بالشرط الذي قدمناه ، وأن من ملك إنشاء عقد ملك الإقرار به ، وأن النكاح والنسب مبنيان على الاحتياط ، وأن الرخص لا تباح بالمعاصي ، وأن الاعتبار في الإيمان بالله أو العتاق أو الطلاق أو غيرها بنية الحالف إلا أن يكون المستحلف قاضيا فاستحلفها لله تعالى ، لدعوى اقتضته ، فإن الاعتبار بنية القاضي أو نائبه إن كان الحالف يوافقه في الاعتقاد ، فإن خالفه كحنفي استحلف شافعيا في شفعة الجوار ففيمن تعتبر نيته ؟ وجهان . وأن اليمين التي يستحلف بها القاضي لا تكون إلا بالله تعالى وصفاته ، وأن الضمان يجب في مال المتلف بغير حق ، سواء كان مكلفا أو غيره ، بشرط كونه من أهل الضمان في حق المتلف عليه . فقولنا : من أهل الضمان ، احتراز من إتلاف المسلم مال حربي ونفسه وعكسه . وقولنا : في حقه ، احتراز من إتلاف العبد مال سيده إلا أن يكون المتلف قاتلا خطأ أو شبه عمد ، فإن الدية على عاقلته ، وأن السيد لا يثبت له مال في ذمة عبده ابتداء وفي ثبوته دواما وجهان . وأن أصل الجمادات الطهارة إلا الخمر وكل نبيذ مسكر . وأن الحيوان على الطهارة إلا الكلب والخنزير وفرع أحدهما . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					