( 1997 ) فصل : والأولى أن يتصدق من الفاضل عن كفايته ، وكفاية من يمونه على الدوام ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول    } متفق عليه ، . فإن تصدق بما ينقص عن كفاية من تلزمه مؤنته ، ولا كسب له ، أثم ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون   } . ولأن نفقة من يمونه واجبة ، والتطوع نافلة ، وتقديم النفل على الفرض غير جائز فإن كان الرجل وحده أو كان لمن يمون كفايتهم فأراد الصدقة بجميع ماله ، وكان ذا مكسب ، أو كان واثقا من نفسه ، يحسن التوكل والصبر على الفقر ، والتعفف عن المسألة ، فحسن ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم { سئل عن أفضل الصدقة ، فقال : جهد من مقل إلى فقير في  [ ص: 369 ] السر   } . وروي عن  عمر  رضي الله عنه قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالا عندي ، فقلت اليوم أسبق  أبا بكر  إن سبقته يوما ، فجئته بنصف مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : أبقيت لهم مثله ، فأتاه  أبو بكر  بكل ما عنده ، فقال له : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : الله ورسوله فقلت : لا أسابقك إلى شيء بعده أبدا   } . 
فهذا كان فضيلة في حق  أبي بكر الصديق  رضي الله عنه لقوة يقينه ، وكمال إيمانه ، وكان أيضا تاجرا ذا مكسب ، فإنه 
قال حين ولي : قد علم الناس أن كسبي لم يكن ليعجز عن مؤنة عيالي . أو كما 
قال رضي الله عنه . 
وإن لم يوجد في المتصدق أحد هذين كره ; لما روى أبو داود  ، عن  جابر بن عبد الله    . 
قال : { كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب ، فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن ، فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها . فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن ، فقال مثل ذلك ، فأعرض عنه ، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر ، فقال مثل ذلك ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من خلفه ، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها ، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي أحدكم بما يملك ، ويقول : هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس ، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى .   } فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على المعنى الذي كره من أجله الصدقة بجميع ماله وهو أن يستكف الناس ، أي يتعرض لهم للصدقة ، أي يأخذها ببطن كفه يقال : تكفف واستكف . 
إذا فعل ذلك وروى  النسائي  ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجلا ثوبين من الصدقة ، ثم حث على الصدقة ، فطرح الرجل أحد ثوبيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألم تروا إلى هذا ، دخل بهيئة بذة فأعطيته ثوبين ، ثم قلت : تصدقوا . فطرح أحد ثوبيه ، خذ ثوبك . وانتهره   } . ولأن الإنسان إذا أخرج جميع ماله ، لا يأمن فتنة الفقر وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم ، فيذهب ماله ويبطل أجره ، ويصير كلا على الناس . ويكره لمن لا صبر له على الإضافة أن ينقص نفسه من الكفاية التامة والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					