الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            الحرية الفكرية

            في مواجهة ظاهرة التطرف

            الأستاذ الدكتور عبد المجيد عمر النجار [1]

            تمهيد:

            بالرغم من التشخيص غير الموضوعي من قبل جهات عدة في العالم لظاهرة التطرف في النطاق الإسلامي، وبالرغم من التوظيف غير النـزيه لهذه الظاهرة من قبل تلك الجهـات، فإنـها في حقيقتـها تعد ظاهرة ذات مصداق في الواقع، وذات تأثير بالغ في الأحداث على المستوى المحلي ضمن البلاد التي توجد فيها، وعلى المستوى العالمي أيضا. وبدل أن يترك أمرها لتبحث من قبل الآخرين، فتشخص تشخيصا غير موضوعي، وتوظف توظيفا غير نزيه، فإنه من الواجب على المسلمين أنفسهم أن يولوا هذه القضية العناية الكافية بالبحث فيها، تشخيصا وبيان أسباب وعلاجا، فهم أقدر على [ ص: 17 ] ذلك باعتبار أنها ظاهرة نابتة فيهم، وهم أخلص في بحثها باعتبار أن آثارها وتداعياتها تمتد إليهم قبل غيرهم.

            وإذ هـذه الظاهرة تعد ظـاهرة في غاية التعقيد، بما هي ملتقى للعوامل المتشابكة، اجتماعية ودينية وسياسية وغيرها، فإن البحث فيها ينبغي أن يأخذ حقه من الجـدية العلمية، وأن يبلغ مداه من الجهـد المبذول، وذلك من أجل الوصول إلى تشخيص صحيح وإلى علاج سديد. ومما يؤسف منه أننا بالرغم من خطورة الظاهرة وتعقـدها فإننا لا نرى الأمر يسـير في هذا الاتجـاه إلى حد الآن، فأكثر ما تتناول به ظـاهرة التطرف من البحث هو مجرد الاستنكار والشجب، أو في أحسن الأحـوال التشخـيص وبيان سوء الآثار، أما الدرس العميق للأسباب التي تولد التطرف، والتوصيف للعـلاج الحقيقي الذي يبرئ منه، فإنه يكاد يكون غائبا في درس هذه الظـاهرة، أو هو يمسها أحيانا مسا خفيفا لا يغني شيئا في مواجهة هذا التحدي الذي يواجه المجتمع بأكمله، وينذر بآثار بالغة السوء على مستقبل استقراره ونموه.

            وفيمـا نحسـب فإنه قـد آن الأوان، إن لم يـكن هـذا الأوان قـد فات، لأن تـدرس ظاهرة التطرف في المجتمع الإسـلامي، ما كان منهـا عاما وما كان دينيا بصفـة خـاصة، دراسـة علمية تتجه نحو البحث عن الأسباب وتوصيف العلاج، وأن تتضافر في ذلك الدرس آليات البحث النفسـية والاجتماعية والدينية للوصول إلى تشخيص سليم يبنى عليه عـلاج ناجـع، [ ص: 18 ] وذلك بدل الاسـتـرسال في الاقـتـصار عـلى تـجـريـم الآثار الـتي يفضي إليهـا التطرف، والاسترسـال في المعالجات الأمنية التي لا تزيده إلا استشراء وانتشـارا، كمـا هـو الحـال السـائد اليـوم في أكـثر ما يقع من تعامل مع هذه الظاهرة.

            ولعل المتأمل بعمق في ظاهرة التطرف، كما هي متفشية في البلاد الإسلامية، والمستأنس في فهم ذلك بأحداث التاريخ في الظواهر المشابهة ينتهي إلى أن التـطرف ظـاهـرة معقدة غـايـة التعقـيـد، مركبة في أسبـابـها، متـشـابـكة في جذورها التي تضرب في أعماق النفوس، وتتشكل في ثنايا التفاعل الاجتماعي، ولكن المتفحص الأريب في متشابك تلك الأسباب والجذور يلمح أن واحدا منها هو الأغلظ والأبين من بينها، وهو بالتالي العامل الأكبر أثرا في إنتاجها، والمغذي الأقوى لديمومتها وتوسعها واستشرائها، وذلكم هو عامل الاستبداد، متمثلا في فروع مختلفة، فكرية وسياسية واقتصادية وغيرها.

            وحينما يتم العثور على هذا العامل الأكبر المولد للتطرف، ويقع التأكد منه عاملا حقيقيا فاعلا بتوصيفه توصيفا صحيحا، وتنسيبه إلى معموله تنسـيـبا يقينيا فإن مرحـلة مهمة من مراحـل البحـث في الظـاهرة تـكون قد أنجـزت لتبنى عليها المرحلة اللاحقة، وهي مرحلة العلاج، ولا يكون علاج الاستبـداد لقطعه عن إنتاج التطرف إلا بنقيضه الذي هـو الحرية، [ ص: 19 ] وهي ما نحسب أنها من أنجع ما يمكن أن تعالج به ظاهرة التطرف بصفة عامة، والتطرف الديني بصفة خاصة، وذلك ما تتضافر عليه شهادة المنطق المجرد مع شهادة التاريخ مع شهادة الوقائع الراهنة لينتج من ذلك ما يشبه اليقين في هذا الشأن.

            وإذا كان للاستـبـداد المفـضـي إلى التـطرف فروع متعددة، فإن واحدا منـهـا يـبـدو أنه من أكبر الـعـوامـل تأثيـرا في إنتاج التـطرف كمـا هـو متـمثل في الظـاهرة الراهنة في البـلاد الإسلامية، وهو الاستبداد الفكري، وهو عامل ذو أثر داخلي يتشكل من ذات التكوين الفكري في البناء الثقـافي للفرد الذي يسلط عليه الاسـتبداد، فيدفع به إلى التطرف، وليصبح ذلك ظـاهرة عـامة حينما يشمل هذا الاستبداد شرائح واسعة من الناس بطريق التربية والتعـليم والتوجيه. وبما أن هذا العامل يضرب في ذات التكوين الثقافي فإنه يمثل خطـورة بالغة، ويحتاج علاجه إلى جهود مضاعفة على تطاول من الزمن. ولا يكون هـذا العـلاج إلا بتحرير الفرد وتحرير جماعة الأفراد تحريرا فكريا من ربقة ما يسلط عليهم من استبداد. وذلك ما نحاول بيانه في المقاربة التالية. [ ص: 20 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية