الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قتل باغر التركي  

            وفي سنة إحدى وخمسين ومائتين اجتمع رأي المستعين وبغا الصغير ووصيف على قتل باغر التركي وكان السبب أن باغر كان أحد قتلة المتوكل ، فزيد في أرزاقه ، فأقطع قطائع ، فكان مما أقطع قرى بسواد الكوفة ، فتضمنها رجل من أهل باروسما بألفي دينار ، فوثب رجل من أهل تلك الناحية ، يقال له ابن مارمة ، بوكيل لباغر ، وتناوله ، فحبس ابن مارمة ، وقيد ، ثم تخلص ، وسار إلى سامرا ، فلقي دليل بن يعقوب النصراني ، وهو يومئذ صاحب أمر بغا الشرابي والحاكم في الدولة ، وكان ابن مارمة صديقا له ، وكان باغر أحد قواد بغا ، فمنعه دليل من ظلم أحمد بن مارمة ، فانتصف له منه ، فغضب باغر وباين دليلا .

            وكان باغر شجاعا يتقيه بغا وغيره ، فحضر عند بغا في ذي الحجة من سنة خمسين [ ومائتين ] وهو سكران ، وبغا في الحمام ، فدخل إليه وقال : من قتل دليلا ( يقتل به ) ، فقال له بغا : لو أردت ولدي ما منعتك منه ، ولكن اصبر ، فإن أمور الخلافة بيد دليل ، وأقيم غيره ، ( ثم افعل به ما تريد .

            وأرسل بغا إلى دليل يأمره ألا يركب ، وعرفه الخبر ، وأقام في كتابته غيره ) ، وتوهم باغر أنه قد عزله ، فسكن باغر ، ثم أصلح بينهما بغا ، وباغر يتهدده ، ولزم باغر خدمة المستعين ، ( فقيل ذلك للمستعين ) .

            فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين : أي شيء كان إلى إيتاخ من الخدمة ؟ فأخبره وصيف ، فقال : ينبغي أن تجعل هذه الأعمال إلى باغر ، وسمع دليل ذلك ، فركب إلى بغا ، فقال له : أنت في بيتك ، وهم في تدبير عزلك ، فإذا عزلت قتلت .

            فركب بغا إلى دار الخليفة في يومه ، وقال لوصيف : أردت أن تعزلني ؟ فحلف أنه ما علم ما أراد الخليفة ، فتعاقدا على تنحية باغر من الدار والحيلة عليه ، فأرجفا له أنه يؤمر ، ويخلع عليه ، ويكون موضع بغا ووصيف ، فأحس باغر ومن معه بالشر ، فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل ، ومعهم غيرهم ، فجدد العهد عليهم في قتل المستعين ، وبغا ، ووصيف ، وقال : نبايع على ابن المعتصم ، أو ابن الواثق ، ويكون الأمر لنا كما هو لهذين ، فأجابوه إلى ذلك .

            وانتهى الخبر إلى المستعين ، فبعث إلى بغا ووصيف ، وقال لهما : أنتما جعلتماني خليفة ، ثم تريدان قتلي ؟ فحلفا أنهما ما علما بذلك ، فأعلمهما الخبر ، فاتفق رأيهم على أخذ باغر ورجلين من الأتراك معه ، وحبسهم ، فأحضروا باغر ، فأقبل في عدة ، فعدل به إلى حمام وحبس فيه .

            وبلغ الخبر الأتراك ، فوثبوا على إصطبل الخليفة ، فانتهبوه وركبوا ما فيه ، وحصروا الجوسق بالسلاح ، فأمر بغا ووصيف بقتل باغر فقتل . مسير المستعين إلى بغداد فلما قتل باغر وانتهى خبر قتله إلى الأتراك المشغبين أقاموا على ما هم عليه ، فانحدر المستعين ، وبغا ، ووصيف ، وشاهك الخادم ، وأحمد بن صالح بن شيرزاد ، ودليل إلى بغداد في حراقة ، فركب جماعة من قواد الأتراك إلى هؤلاء المشغبين فسألوهم الانصراف ، فلم يفعلوا ، فلما علموا بانحدار المستعين وبغا ووصيف ندموا ، ثم قصدوا دار دليل ، ودور أهله وجيرانه ، فنهبوها ، حتى صاروا إلى أخذ الخشب وعليق الدواب ، فلما قدموا بغداد مرض ابن مارمة ، فعاده دليل ، وقال له : ما سبب علتك ؟ قال : انتقض عقر القيد ، فقال دليل : لئن عقرك القيد لقد نقضت الخلافة ، وبغيت الفتنة ، ومات ابن مارمة في تلك الأيام ، وقال بعض الشعراء في ذلك :


            لعمري لئن قتلوا باغرا لقد هاج باغر حربا طحونا     وفر الخليفة والقائدان
            بالليل يلتمسون السفينا     وصاحوا بمنشار ملاحهم
            ، فجاءهم يسبق الناظرينا     فألزمهم بطن حراقة
            وصوت مجاذيفهم سائرينا     وما كان قدر ابن مارمة
            فنكسب فيه الحروب الزبونا     ولكن دليل سعى سعية
            فأخزى الإله بها العالمينا     فحل ببغداذ قبل الشروق
            فخل بها منه ما يكرهونا     فليت السفينة لم تأتنا
            وغرقها الله والراكبينا     وأقبلت الترك والمغربون
            وجاء الفراغنة الدارعونا     تسير كراديسهم في السلاح
            يرجون خيلا ورجلا بنينا     فقام بحربهم عالم بأمر
            الحروب تولاه حينا     فجدد سورا على الجانبين
            حتى أحاطهم أجمعينا     وأحكم أبوابها المصمتات
            على السور يحمي بها المستعينا وهيا     مجانيق خطارة
            تفيت النفوس ، وتحمي العرينا

            ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد ، وأخذوا ملاحا قد أكرى سفينته ، فضربوه ، وصلبوه على دقلها ، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار إلا سرا .

            وكان وصول المستعين إلى بغداد لخمس خلون من المحرم من هذه السنة ، فنزل على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره ، ثم وافى بغداد القواد ، سوى جعفر الخياط ، وسليمان بن يحيى بن معاذ ، وقدمها جلة الكتاب والعمال وبني هاشم ، وجماعة من أصحاب بغا ووصيف .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية