الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر نقض قريش العهد

            لما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبية ، كلمت بنو نفاثة وبنو بكر أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة ، وذكروهم القتلى الذين أصابت خزاعة منهم ، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأر أولئك النفر الذين أصابوا منهم في بني الأسود بن رزن ، وناشدوهم بأرحامهم ، وأخبروهم بدخولهم في عقدهم وعدم الإسلام ، ودخول خزاعة في عقد محمد وعهده ، فوجدوا القوم إلى ذلك سراعا ، إلا أن أبا سفيان بن حرب لم يشاور في ذلك ولم يعلم ، ويقال إنهم ذاكروه فأبى ذلك ، فأعانوا بالسلاح والكراع والرجال ، ودسوا ذلك سرا لئلا تحذر خزاعة ، وخزاعة آمنون غارون لحال الموادعة ، ولما حجز الإسلام بينهم .

            ثم اتعدت قريش وبنو بكر وبنو نفاثة الوتير ، وهو موضع أسفل مكة ، وهو منازل خزاعة فوافوا للميعاد فيهم رجال من قريش من كبارهم متنكرون منتقبون ، صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وحويطب بن عبد العزى ، وشيبة بن عثمان - وأسلموا بعد ذلك - ومكرز بن حفص ، وأجلبوا معهم أرقاءهم ، ورأس بني بكر نوفل بن معاوية الدئلي - وأسلم بعد ذلك - فبيتوا خزاعة ليلا وهم غارون آمنون - وعامتهم صبيان ونساء وضعفاء الرجال ، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له : الوتير فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا إلى أنصاب الحرم ، فقال أصحاب نوفل بن معاوية له : يا نوفل إلهك إلهك قد دخلت الحرم! فقال : كلمة عظيمة ، لا إله لي اليوم ، يا بني بكر ، لعمري إنكم لتسرقون الحاج في الحرم ، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم ، ولا يتأخر أحد منكم بعد يومه عن ثأره ؟ ! وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلا يقال له منبه وكان منبه رجلا مفئودا خرج هو ورجل من قومه يقال له تميم بن أسد وقال له منبه : يا تميم ، انج بنفسك ، فأما أنا فوالله إني لميت ، قتلوني أو تركوني ، لقد انبت فؤادي ، وانطلق تميم فأفلت ، وأدركوا منبها فقتلوه. فلما انتهت خزاعة إلى الحرم دخلت دار بديل بن ورقاء ، ودار مولى لهم يقال له رافع الخزاعيين ، وانتهوا بهم في عماية الصبح ، ودخلت رؤساء قريش منازلهم وهم يظنون أنهم لا يعرفون ، وأنه لا يبلغ هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصبحت خزاعة مقتلين على باب بديل ورافع .

            وقال سهيل بن عمرو لنوفل بن الحرث : قد رأيت الذي صنعنا بك وبأصحابك ومن قتلت من القوم ، وأنت قد حصدتهم تريد قتل من بقي ، وهذا ما لا نطاوعك عليه ، فاتركهم فتركهم ، فخرجوا وندمت قريش ، وندموا على ما صنعوا ، وعرفوا أن هذا الذي صنعوه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء الحارث بن هشام ، وعبد الله بن أبي ربيعة إلى صفوان بن أمية ، وإلى سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل فلاموهم بما صنعوا من عونهم بني بكر على خزاعة - وقالوا : إن بينكم وبين محمد مدة وهذا نقض لها . وقيل : كان سبب ذلك أن رجلا من خزاعة سمع رجلا من بكر ينشد هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فشجه ، فهاج الشر بينهم وقال تميم بن أسد يعتذر من فراره عن منبه

            لما رأيت بني نفاثة أقبلوا يغشون كل وتيرة وحجاب     صخرا ورزنا لا عريب سواهم
            يزجون كل مقلص خناب     وذكرت ذحلا عندنا متقادما
            فيما مضى من سالف الأحقاب     ونشيت ريح الموت من تلقائهم
            ورهبت وقع مهند قضاب     وعرفت أن من يثقفوه يتركوا
            لحما لمجرية وشلو غراب     قومت رجلا لا أخاف عثارها
            وطرحت بالمتن العراء ثيابي     ونجوت لا ينجو نجائي أحقب
            علج أقب مشمر الأقراب     تلحى ولو شهدت لكان نكيرها
            بولا يبل مشافر القبقاب     القوم أعلم ما تركت منبها
            عن طيب نفس فاسألي أصحابي

            [ شعر الأخزر في الحرب بين كنانة وخزاعة ]

            قال ابن إسحاق : وقال الأخزر بن لعط الديلي فيما كان بين كنانة وخزاعة في تلك الحرب :


            ألا هل أتى قصوى الأحابيش أننا     رددنا بني كعب بأفوق ناصل
            حبسناهم في دارة العبد رافع     وعند بديل محبسا غير طائل
            بدار الذليل الآخذ الضيم بعدما     شفينا النفوس منهم بالمناصل
            حبسناهم حتى إذا طال يومهم     نفحنا لهم من كل شعب بوابل
            نذبحهم ذبح التيوس كأننا     أسود تبارى فيهم بالقواصل
            هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم     وكانوا لدى الأنصاب أول قاتل
            كأنهم بالجزع إذ يطردونهم     بفاثور حفان النعام الجوافل

            [ شعر بديل في الرد على الأخزر ]

            فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الأجب ، وكان يقال له : بديل بن أم أصرم ، فقال :


            تفاقد قوم يفخرون ولم ندع     لهم سيدا يندوهم غير نافل
            أمن خيفة القوم الألى تزدريهم     تجيز الوتير خائفا غير آئل
            وفي كل يوم نحن نحبو حباءنا     لعقل ولا يحبى لنا في المعاقل
            ونحن صبحنا بالتلاعة داركم     بأسيافنا يسبقن لوم العواذل
            ونحن منعنا بين بيض وعتود     إلى خيف رضوى من مجر القنابل
            ويوم الغميم قد تكفت ساعيا     عبيس فجعناه بجلد حلاحل
            أأن أجمرت في بيتها أم بعضكم     بجعموسها تنزون أن لم نقاتل
            كذبتم وبيت الله ما إن قتلتم     ولكن تركنا أمركم في بلابل



            قال ابن هشام : قوله غير نافل ، وقوله إلى خيف رضوى عن غير ابن إسحاق . [ شعر حسان في الحرب بين كنانة وخزاعة ]

            قال ابن هشام : وقال حسان بن ثابت في ذلك :


            لحا الله قوما لم ندع من سراتهم     لهم أحدا يندوهم غير ناقب
            أخصيي حمار مات بالأمس نوفلا     متى كنت مفلاحا عدو الحقائب



            وفيها : أن أهل العهد إذا حاربوا من هم في ذمة الإمام وجواره وعهده صاروا حربا له بذلك ، ولم يبق بينهم وبينه عهد ، فله أن يبيتهم في ديارهم ، ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء ، وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة ، فإذا تحققها صاروا نابذين لعهده .

            وفيها : انتقاض عهد جميعهم بذلك ، ردئهم ومباشريهم ، إذا رضوا بذلك ، وأقروا عليه ولم ينكروه فإن الذين أعانوا بني بكر من قريش بعضهم ، لم يقاتلوا كلهم معهم ، ومع هذا فغزاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم ، وهذا كما أنهم دخلوا في عقد الصلح تبعا ، ولم ينفرد كل واحد منهم بصلح ، إذ قد رضوا به وأقروا عليه ، فكذلك حكم نقضهم للعهد ، هذا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا شك فيه كما ترى .

            وطرد هذا جريان هذا الحكم على ناقضي العهد من أهل الذمة ، إذا رضي جماعتهم به ، وإن لم يباشر كل واحد منهم ما ينقض عهده ، كما أجلى عمر يهود خيبر لما عدا بعضهم على ابنه ورموه من ظهر دار ففدعوا يده ، بل قد قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميع مقاتلة بني قريظة ، ولم يسأل عن كل رجل منهم هل نقض العهد أم لا ؟ وكذلك أجلى بني النضير كلهم ، وإنما كان الذي هم بالقتل رجلان ، وكذلك فعل ببني قينقاع حتى استوهبهم منه عبد الله بن أبي ، فهذه سيرته وهديه الذي لا شك فيه ، وقد أجمع المسلمون على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد ، ولا يشترط في قسمة الغنيمة ولا في الثواب مباشرة كل واحد واحد القتال .

            وهذا حكم قطاع الطريق ، حكم ردئهم حكم مباشرهم ؛ لأن المباشر إنما باشر الإفساد بقوة الباقين ، ولولاهم ما وصل إلى ما وصل إليه ، وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ، وهو مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة وغيرهم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية