وهذه رحمه الله ترجمة مصعب بن الزبير
وهو مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، أبو عبد الله القرشي - ويقال له : أبو عيسى أيضا - الأسدي . وأمه الرباب بنت أنيف الكلبية .
صفته الخلقية والأخلاقية
كان من أحسن الناس وجها ، وأشجعهم قلبا ، وأسخاهم كفا .
وقد حكى عن عمر بن الخطاب ، وروى عن أبيه الزبير بن العوام ، وسعد ، وأبي سعيد الخدري ، وروى عنه الحكم بن عتيبة ، وعمرو بن دينار الجمحي ، وإسماعيل بن أبي خالد ، ووفد على معاوية ، وكان ممن يجالس أبا هريرة ، وكان من أحسن الناس وجها .
حكى الزبير بن بكار أن جميلا نظر إليه وهو واقف بعرفة ، فقال : إن هاهنا فتى أكره أن تراه بثينة . وقال الشعبي : ما رأيت أميرا قط على منبر أحسن منه . وكذا قال إسماعيل بن أبي خالد . وقال الحسن : هو أجمل أهل البصرة .
قتل المختار بن أبي عبيد وتمكن مصعب من العراق
وقال الخطيب البغدادي : ولي إمرة العراقين لأخيه حتى قتله عبد الملك بن مروان بمسكن في موضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق ، وقبره إلى الآن معروف هناك . وقد ذكرنا صفة قتله المختار بن أبي عبيد ، وأنه قتل في غداة واحدة من أصحاب المختار سبعة آلاف . قال الواقدي : لما قتل مصعب المختار طلب أهل القصر من أصحاب المختار من مصعب الأمان فأمنهم ، ثم بعث إليهم عباد بن الحصين فجعل يخرجهم ملتفين ، فقال له رجل : الحمد لله الذي نصركم علينا ، وابتلانا بالأسر ، يابن الزبير من عفا عفا الله عنه ، ومن عاقب لا يأمن القصاص ، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم وقد قدرت فاسمح واعف عنا . قال : فرق لهم مصعب وأراد أن يخلي سبيلهم ، فقام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وغيره من كل قبيلة ، فقالوا : قد قتلوا أولادنا وعشائرنا ، وجرحوا منا خلقا ، اخترنا أو اخترهم . فأمر حينئذ بقتلهم ، فنادوا بأجمعهم : لا تقتلنا واجعلنا مقدمتك في قتال عبد الملك بن مروان ، فإن ظفرنا فلكم ، وإن قتلنا لا نقتل حتى نقتل منهم طائفة وكان الذي تريد . فأبى ذلك مصعب ، فقال له مسافر : اتق الله يا مصعب ، فإن الله عز وجل أمرك أن لا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس ، وإن : عبد الله بن الزبير ، من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( النساء : 93 ) فلم يسمع له ، بل أمر بضرب أعناقهم جميعهم ، وكانوا سبعة آلاف نفس ، ثم كتب مصعب إلى ابن الأشتر : إن أجبتني فلك الشام ، وأعنة الخيل . فسار ابن الأشتر إلى مصعب . وقيل : إن مصعبا لما قدم مكة أتى عبد الله بن عمر فقال : أي عم ، إني أسألك عن قوم خلعوا الطاعة ، وقاتلوا حتى إذا غلبوا تحصنوا ، وسألوا الأمان فأعطوه ، ثم قتلوا بعد ذلك . فقال : وكم هم ؟ قال : خمسة آلاف . فسبح ابن عمر واسترجع ، وقال : لو أن رجلا أتى ماشية الزبير فذبح منها خمسة آلاف ماشية في غداة واحدة ألست تعده مسرفا ؟ قال : نعم . قال : أفتراه إسرافا في البهائم ولا تراه إسرافا في من ترجو توبته ؟ ! يابن أخي أصب من الماء البارد ما استطعت في دنياك .
ثم إن مصعبا بعث برأس المختار إلى أخيه بمكة ، وتمكن مصعب في العراق تمكنا زائدا ، فقرر بها الولايات والعمال ، وحظي عنده إبراهيم بن الأشتر فجعله على الوفادة ، ثم رحل مصعب إلى أخيه بمكة فأعلمه بما فعل ، فأقره على ما صنع ، إلا إبراهيم بن الأشتر لم يمض له ما جعله عليه . فقال له : أعمدت إلى راية خفضها الله ، تريد أن ترفعها ؟ ثم كشف عن ظهره فإذا ضربة قد أصابته ، وقال له : أتراني أحب الأشتر وهو الذي جرحني هذه الجراحة . ثم استدعى بمن قدم مع مصعب من أهل العراق فقال لهم : والله لوددت أن لي بكل رجلين منكم رجلا من أهل الشام . فقال له أبو حاضر الأسدي - وكان قاضي الجماعة بالبصرة - : إن لنا ولكم مثلا قد مضى يا أمير المؤمنين ، وهو ما قال الأعشى :
علقتها عرضا وعلقت رجلا غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
قلت كما قيل أيضا :
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
علقناك يا أمير المؤمنين ، وعلقت أهل الشام ، وعلق أهل الشام إلى مروان فما عسينا أن نصنع ؟ قال الشعبي : فما سمعت جوابا أحسن منه ، وقال غيره : كان مصعب من أشد الناس محبة للنساء . وقد أعطاه الله من ذلك شيئا كثيرا
قال الأصمعي ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه قال : اجتمع في الحجر مصعب ، و عروة ، و عبد الله ، بنو الزبير ، و عبد الله بن عمر ، فقالوا : تمنوا ، فقال عبد الله بن الزبير : أما أنا فأتمنى الخلافة ، وقال عروة : أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم . وقال مصعب : أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين . وقال عبد الله بن عمر أما أنا فأتمنى المغفرة . قال : فنالوا كلهم ما تمنوا ، ولعل ابن عمر قد غفر الله له .
وقال عامر الشعبي : بينما أنا جالس يوما إذ دعاني الأمير مصعب بن الزبير فأدخلني دار الإمارة ، ثم كشف عن ستر فإذا وراءه عائشة بنت طلحة فلم أر منظرا أبهى ، ولا أحسن منها . فقال : أتدري من هذه ؟ فقلت : لا . فقال : هذه عائشة بنت طلحة ، ثم خرجت ، فقالت عائشة : من هذا الذي أظهرتني عليه ؟ قال : هذا عامر الشعبي . قالت : فأطلق له شيئا . فوهبني عشرة آلاف درهم . قال الشعبي : فكان أول مال ملكته .
وحكى الحافظ ابن عساكر أن عائشة بنت طلحة تغضبت مرة على مصعب فترضاها بأربعمائة ألف درهم فأطلقتها هي للمرأة التي أصلحت بينهما . وقيل : إنه أهديت له نخلة من ذهب ، ثمارها من صنوف الجواهر المثمنة ، فقومت بألفي ألف دينار ، وكانت من متاع الفرس فأعطاها لعبد الله بن أبي فروة . وقيل : إن أخاه عبد الله كان إذا كتب لأحد جائزة بألف درهم جعلها مصعب مائة ألف درهم .
وقد كان مصعب من أجود الناس وأكثرهم عطاء ، لا يستكثر ما يعطي ولو كان ما عساه أن يكون ; فكانت عطاياه للقوي والضعيف والوضيع والشريف متقاربة ، وكان أخوه عبد الله يبخل .
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه أن مصعبا غضب مرة على رجل فأمر بضرب عنقه ، فقال له الرجل : أعز الله الأمير ، ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فيتعلق بأطرافك الحسنة ، وبوجهك الذي يستضاء به ، فأقول : يا رب سل مصعبا فيم قتلني ؟ فعفا عنه ، فقال الرجل : أعز الله الأمير ، إن رأيت أن تجعل ما وهبت لي من حياتي في عيش رخي . فأطلق له مائة ألف ، فقال الرجل : إني أشهدك أن نصفها لابن قيس الرقيات ; حيث يقول فيك :
إن مصعبا شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيه جبروت منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد أف لح من كان همه الاتقاء
وعن علي بن زيد قال : بلغ مصعبا عن عريف الأنصار شيء فهم به ، فدخل عليه أنس بن مالك ، فقال له : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : استوصوا بالأنصار خيرا - أو قال : معروفا - اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم فألقى مصعب نفسه عن سريره وألصق خده بالبساط ، وقال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين فتركه .
من كلام مصعب في التواضع
أنه قال : العجب من ابن آدم كيف يتكبر ، وقد جرى في مجرى البول مرتين ؟ ! ومن كلام مصعب في التواضع
وقال محمد بن يزيد المبرد : سئل القاسم بن محمد عن مصعب فقال : كان نبيلا رئيسا نفيسا أنيسا .
وقد تقدم أنه لما ظهر المختار قتل من أصحابه في غداة واحدة خمسة آلاف وقيل سبعة آلاف ، فلما كان بعد ذلك لقي ابن عمر فسلم عليه فلم يعرفه ابن عمر ; لأنه كان قد انضر في عينيه فتعرف له حتى عرفه ، قال : أنت الذي قتلت في غداة واحدة خمسة آلاف ممن يوحد الله ؟ فاعتذر إليه بأنهم بايعوا المختار ، فقال : أما كان فيهم من هو مستكره أو جاهل فينظر حتى يتوب ؟ أرأيت لو أن رجلا جاء إلى غنم الزبير فنحر منها خمسة آلاف في غداة واحدة أما كان مسرفا ؟ قال : بلى . قال : وهي لا تعبد الله ولا تعرفه كما يعرفه الآدمي ويعبده ؛ فكيف بمن هو موحد ؟ ! ثم قال له : يا بني ، تمتع من الماء البارد في الدنيا ما استطعت . وفي رواية أنه قال له : عش ما استطعت .
وقال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه : من أشجع العرب ؟ قالوا : شبيب ، قطري بن الفجاءة ، فلان ، فلان . فقال عبد الملك : إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين ، وعائشة بنت طلحة ، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز ، وأمه رباب بنت أنيف الكلبي ، سيد ضاحية العرب ، وولي العراقين خمس سنين ، فأصاب ألف ألف ، وألف ألف ، وألف ألف ، وأعطي الأمان ، فأبى ، ومشى بسيفه حتى مات ، ذلك مصعب بن الزبير ، لا من قطع الجسور مرة هاهنا ، ومرة هاهنا .
مقتل مصعب
قالوا : وكان مقتله يوم الخميس النصف من جمادى الأولى سنة ثنتين وسبعين .
وقال جعفر بن أبي كثير ، عن أبيه ، قال : لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال :
لقد أردى الفوارس يوم عبس غلاما غير مناع المتاع
ولا فرح لخير إن أتاه ولا هلع من الحدثان لاع
ولا وقافة والخيل تعدو ولا خال كأنبوب اليراع
فقال الرجل الذي جاء برأسه : والله يا أمير المؤمنين لو رأيته والرمح في يده تارة ، والسيف تارة ; يفري بهذا ، ويطعن بهذا ، لرأيت رجلا يملأ القلب والعين شجاعة وإقداما ، ولكنه لما تفرقت رجاله ، وكثر من قصده وبقي وحده ما زال ينشد :
وإني على المكروه عند حضوره أكذب نفسي والجفون له تغضي
وما ذاك من ذل ولكن حفيظة أذب بها عند المكارم عن عرضي
وإني لأهل الشر بالشر مرصد وإني لذي سلم أذل من الأرض
فقال عبد الملك : كان والله كما وصف به نفسه وصدق ، ولقد كان من أحب الناس إلي ، وأشدهم لي إلفا ومودة ، ولكن الملك عقيم .
وعن سعيد بن يزيد ، أن عبيد الله بن زياد بن ظبيان قتل مصعبا عند دير الجاثليق على شاطئ نهر يقال له : دجيل ، من أرض مسكن ، واحتز رأسه فذهب به إلى عبد الملك فسجد شكرا لله ، وكان ابن ظبيان فاتكا رديا ، وكان يقول : ليتني قتلت عبد الملك حين سجد يومئذ ، فأكون قد قتلت ملكي العرب .
قال يعقوب : وكان ذلك سنة ثنتين وسبعين . قلت : وكذا قال علي بن محمد المدائني . والذي رجحه ابن جرير وغيره أنه سنة إحدى وسبعين ، والله أعلم .
وحكى الزبير بن بكار في عمره يوم قتل ثلاثة أقوال ; أحدها خمس وثلاثون سنة ، والثاني أربعون سنة ، والثالث خمس وأربعون سنة . فالله أعلم .
رثاء مصعب
وروى الخطيب البغدادي ، أن امرأته سكينة بنت الحسين كانت معه في هذه الوقعة ، فلما قتل تطلبته في القتلى حتى عرفته بشامة في فخذه . فقالت : نعم بعل المرأة المسلمة كنت ، أدركك والله ما قال عنترة :
وحليل غانية تركت مجدلا بالقاع لم يعهد ولم يتثلم
فهتكت بالرمح الطويل إهابه ليس الكريم على القنا بمحرم
قال الزبير : وقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا :
لقد أورث المصرين خزيا وذلة قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت لله بكر بن وائل ولا صدقت يوم اللقاء تميم
ولو كان بكريا تعطف حوله كتائب يغلي حميها ويدوم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن بها مضري يوم ذاك كريم
جزى الله كوفيا هناك ملامة وبصريهم إن الملوم ملوم
وإن بني العلات أخلوا ظهورنا ونحن صريح بينهم وصميم
فإن نفن لا يبقى أولئك بعدنا لذي حرمة في المسلمين حريم
وقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا أيضا :
نعت السحائب والغمام بأسرها جسدا بمسكن عاري الأوصال
تمسي عوائذه السباع وداره بمنازل أطلالهن بوالي
رحل الرفاق وغادروه ثاويا للريح بين صبا وبين شمال
وقد قال أبو حاتم الرازي : ثنا يحيى بن مصعب الكلبي ، ثنا أبو بكر بن عياش ، عن عبد الملك بن عمير قال : دخلت القصر بالكوفة فإذا رأس الحسين بن علي على ترس بين يدي عبيد الله بن زياد ، وعبيد الله على السرير ، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار ، والمختار على السرير ، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار على ترس بين يدي مصعب بن الزبير ، ومصعب على السرير ، ثم دخلت القصر بعد حين فرأيت رأس مصعب بن الزبير على ترس بين يدي عبد الملك ، وعبد الملك على السرير ، وقد حكاها الإمام أحمد وغير واحد عن عبد الملك بن عمير رحمه الله .
خطبة عبد الله بن الزبير في مقتل أخيه مصعب
فصل ( ) خطبة عبد الله بن الزبير في مقتل أخيه مصعب
قال ابن جرير : وذكر أبو زيد ، عن أبي غسان محمد بن يحيى ، حدثني مصعب بن عثمان قال : لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب ، قام في الناس خطيبا فقال : الحمد لله الذي له الخلق والأمر ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء ، ألا وإنه لم يذل الله من كان الحق معه ، وإن كان فردا وحده ، ولن يفلح من كان وليه الشيطان وحزبه ، ولو كان معه الأنام طرا ، ألا وإنه أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا ، أتانا قتل مصعب رحمه الله ، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة ، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة به ، ثم يرعوي من بعدها ، وذو الرأي جميل الصبر كريم العزاء ، ولئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بالزبير قبله ، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة ، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله ، وعون من أعواني ، ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق ، أسلموه وباعوه بأقل الثمن ، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص ; والله ما قتل رجل في زحف في الجاهلية ولا في الإسلام ، وما نموت إلا بأطراف الرماح أو تحت ظل السيوف ، ألا وإن الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه ، فإن تقبل الدنيا لا آخذها أخذ الأشر البطر ، وإن تدبر لا أبك عليها بكاء الحزين المهين ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم .