الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم دخلت سنة إحدى وسبعين

            وفيها كان مقتل مصعب بن الزبير ،  وذلك أن عبد الملك بن مروان سار في جنود هائلة من الشام قاصدا مصعب بن الزبير بالعراق ، فالتقيا في هذه السنة ، وقد كانا قبلها يركب كل واحد لملتقى الآخر ، فيحول بينهما الشتاء والبرد والوحل ، فيرجع كل واحد منهما إلى بلده ، فلما كان في هذا العام سار إليه عبد الملك ، وبعث بين يديه السرايا ، ودخل بعض من أرسله إلى البصرة فدعا أهلها إلى عبد الملك في السر ، فاستجاب له بعضهم ، وقد كان مصعب سار إلى الحجاز ، فجاء ودخل البصرة على إثر ذلك ، فأنب الكبراء من الناس ، وشتمهم ولامهم على دخول أولئك إليهم ، وإقرارهم لهم على ذلك ، وهدم دور بعضهم ، ثم شخص إلى الكوفة ، ثم بلغه قصد عبد الملك له بجنود الشام فخرج إليه .

            ووصل عبد الملك إلى مسكن ، وكتب إلى المروانية الذين استجابوا لمن بعثه إليهم فأجابوه ، واشترطوا عليه أن يوليهم أصبهان ، فقال : نعم . وهم جماعة كثيرة من الأمراء ، وقد جعل عبد الملك على مقدمته أخاه محمد بن مروان بن الحكم ، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية ، وعلى ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية ، وخرج مصعب بن الزبير ، وقد اختلف عليه أهل العراق ، وخذلوه وجعل يتأمل من معه فلا يجدهم يقاومون أعداءه ، فاستقتل وطمن نفسه على ذلك ، وقال : لي بالحسين بن علي أسوة حين امتنع من إلقائه يده ، ومن الذلة لعبيد الله بن زياد ، وجعل ينشد ويقول مسليا نفسه :


            وإن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا



            وكان عبد الملك قد أشار عليه بعض أمرائه أن يقيم بالشام ، وأن يبعث إلى مصعب جيشا فأبى ، وقال : لعلي أبعث رجلا شجاعا لا رأي له ، أو من له رأي ولا شجاعة له ، وإني أجد من نفسي بصرا بالحرب وشجاعة ، وإن مصعبا في بيت شجاعة ، أبوه أشجع قريش ، وأخوه لا تجهل شجاعته ، وهو شجاع ، لا علم له بالحرب ، وهو يحب الدعة والخفض ، ومعه من يخالفه ، ومعي من ينصح لي . فسار بنفسه ، فلما تقارب الجيشان بعث عبد الملك إلى أمراء مصعب بكتب يدعوهم إلى نفسه ويعدهم الولايات ، فجاء إبراهيم بن الأشتر إلى مصعب فألقى إليه كتابا مختوما ، وقال : هذا جاءني من عبد الملك . ففتحه فإذا هو يدعوه إلى الإتيان إليه ، وله نيابة العراق . وقال لمصعب : أيها الأمير ، إنه لم يبق أحد من أمرائك إلا وقد جاءه كتاب مثل هذا فإن أطعتني ضربت أعناقهم . فقال له مصعب : إني لو فعلت ذلك لم تنصحنا عشائرهم بعدهم . فقال : فأوقرهم في الحديد وابعثهم إلى أبيض كسرى فاسجنهم فيه ، ووكل بهم من إن غلبت ضرب أعنقهم ، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم . فقال له : يا أبا النعمان ، إني لفي شغل عن هذا . ثم قال مصعب : رحم الله أبا بحر - يعني الأحنف بن قيس - إن كان ليحذرني غدر أهل العراق ، وكأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه الآن .

            مواجهة الجيشان بدير الجاثليق من مسكن

            ثم تواجه الجيشان بدير الجاثليق من مسكن ، فحمل إبراهيم بن الأشتر - وهو أمير المقدمة العراقية لجيش مصعب - على محمد بن مروان - وهو أمير مقدمة الشام - فأزاله عن موضعه ، فأردفه عبد الملك بن مروان بعبد الله بن يزيد بن معاوية ، فحملوا على إبراهيم بن الأشتر ، ومن معه فطحنوهم ، وقتل إبراهيم بن الأشتر ، رحمه الله وعفا عنه ، وقتل معه جماعة من الأمراء ، وكان عتاب بن ورقاء على خيل مصعب فهرب أيضا ولجأ إلى عبد الملك بن مروان ، وجعل مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض أصحاب الرايات ، ويحث الشجعان والأبطال أن يتقدموا إلى أمام القوم ، فلا يتحرك أحد ، فجعل يقول : يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم ! وتفاقم الأمر ، واشتد القتال وتخاذلت الرجال ، وضاق الحال ، وكثر النزال .

            قال المدائني : عن يحيى بن إسماعيل بن المهاجر ، عن أبيه قال : أرسل عبد الملك أخاه محمد بن مروان إلى مصعب يعطيه الأمان فأبى ، وقال : إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموضع إلا غالبا أو مغلوبا .

            قالوا : فنادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب فقال : يابن أخي ، لا تقتل نفسك ، لك الأمان . فقال له مصعب : قد آمنك عمك فامض إليه . فقال : لا تتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل . فقال له : يا بني ، فاركب خيل السبق فالحق بعمك ، فأخبره بما صنع أهل العراق فإني مقتول هاهنا ، فقال : والله إني لا أخبر عنك أحدا أبدا ، ولا أخبر نساء قريش بمصرعك أبدا ، ولا أقتل إلا معك ، ولكن إن شئت ركبت خيلك ، وسرنا إلى البصرة ، فإنهم على الجماعة . فقال مصعب : لا والله ، ما الفرار لي بعادة ، ولكن أقاتل ، فإن قتلت فما السيف لي بعار ، والله لا تتحدث قريش عني أني فررت من القتال . ثم قال لابنه : تقدم بين يدي حتى أحتسبك . فتقدم ابنه ، فقاتل حتى قتل ، وأثخن مصعب بالرمي ، فنظر إليه زائدة بن قدامة ، وهو كذلك فحمل عليه فطعنه ، وهو يقول : يا ثارات المختار ! فصرعه ، ونزل إليه رجل يقال له : عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي ، فقتله وحز رأسه ، وأتى به عبد الملك بن مروان ، فسجد عبد الملك ، وأطلق له ألف دينار فأبى أن يقبلها ، وقال : لم أقتله على طاعتك ، ولكن بثأر كان لي عنده ، وكان قد ولي له عملا قبل ذلك فعزله عنه وأهانه .

            وقال : لما تفرق عن مصعب جموعه قال له ابنه عيسى : لو اعتصمت ببعض القلاع ، وكاتبت من بعد عنك مثل المهلب بن أبي صفرة وغيره فقدموا عليك ، فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم ; فإنك قد ضعفت جدا . فلم يرد عليه جوابا . ثم ذكر ما جرى للحسين بن علي ، وكيف قتل كريما ، ولم يلق بيده ، ولم يجد من أهل العراق وفاء . وكذلك أبوه وأخوه ، ونحن ما وجدنا لهم وفاء .

            ثم انهزم أصحابه ، وبقي في قليل من خواصه ، ومال الجميع إلى عبد الملك ، وقد كان عبد الملك يحب مصعبا حبا شديدا ، وكان خليلا له قبل الخلافة ، فقال لأخيه محمد : اذهب إليه فآمنه ، فجاءه ، فقال له : يا مصعب قد آمنك ابن عمك على نفسك وولدك ومالك وأهلك ، فاذهب حيث شئت من البلاد ، ولو أراد بك غير ذلك لكان ، فقال مصعب : قضي الأمر ، إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا . فتقدم ابنه عيسى فقاتل ، فقال محمد بن مروان يابن أخي لا تقتل نفسك . ثم ذكر من قوله ما تقدم ، ثم قاتل حتى قتل ، رحمه الله ، ثم ذكر من قتل أبيه بعده ، كما تقدم .

            بكاء عبد الملك عند وفاة مصعب ووقت وفاته

            قال : ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بكى وقال : والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له حتى دخل السيف بيننا ، ولكن الملك عقيم ! ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة ، متى تلد النساء مثل مصعب ؟ ثم أمر بمواراته ، ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الأشتر في قبور بمسكن بالقرب من الكوفة .

            قال المدائني : وكان مقتل مصعب بن الزبير يوم الثلاثاء الثالث عشر من جمادى الأولى أو الآخرة من سنة إحدى وسبعين في قول الجمهور ، وقال المدائني : سنة ثنتين وسبعين . والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية