الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            بعض أحداث تلك السنة

            ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين

            ففيها كانت وقعة عظيمة بين المهلب بن أبي صفرة وبين الأزارقة من الخوارج بمكان يقال له : سولاف  ، مكثوا نحوا من ثمانية أشهر متواقفين ، وجرت بينهم حروب يطول بسطها ، وقد استقصاها ابن جرير ، وقتل في أثناء ذلك من هذه المدة مصعب بن الزبير ، وبايع الناس عبد الملك بن مروان ، وأمر عبد الملك المهلب بن أبي صفرة على الأهواز وما معها ، وشكر سعيه ، وأثنى عليه ثناء كثيرا ، ثم تواقع الناس في دولة عبد الملك بالأهواز ، فكسر الناس الخوارج كسرة عظيمة ، وهربوا في البلاد لا يلوون بل يولولون ، واتبعهم خالد بن عبد الله أمير الناس ، وداود بن قحذم ليطردوهم ، وأرسل عبد الملك إلى أخيه بشر بن مروان أن يمدهم بأربعة آلاف ، فبعث إليه أربعة آلاف ، عليهم عتاب بن ورقاء ، فطردوا الخوارج كل مطرد ، ولكن لقي الجيش جهدا عظيما ، وماتت خيولهم ، ولم يرجع أكثرهم إلا مشاة إلى أهليهم .

            خروج أبي فديك الحارثي وقتل نجدة الحارثي

            قال ابن جرير : وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الحارثي ، وهو من بني قيس بن ثعلبة ، وغلب على البحرين ، وقتل نجدة بن عامر الحارثي ، فبعث إليه خالد بن عبد الله أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله في جيش كثيف ، فهزمهم أبو فديك ، وأخذ جارية لأمية ، واصطفاها لنفسه ، وكتب خالد بن عبد الله أمير البصرة إلى عبد الملك يعلمه بما وقع ، واجتمع على خالد حرب أبي فديك وحرب الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة بالأهواز .

            بعث عبد الملك الحجاج بن يوسف الثقفي إلى عبد الله بن الزبير

            قال ابن جرير : وفيها بعث عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي إلى عبد الله بن الزبير ; ليحاصره بمكة  ، قال : وكان السبب في بعثه له دون غيره أن عبد الملك بن مروان لما أراد الرجوع إلى الشام بعد قتله مصعبا وأخذه العراق ، ندب الناس إلى قتال عبد الله بن الزبير بمكة ، فلم يجبه أحد إلى ذلك ، فقام الحجاج وقال : يا أمير المؤمنين ، أنا له . وقص الحجاج على عبد الملك مناما زعم أنه رآه ; قال : رأيت يا أمير المؤمنين كأني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته ، فابعث بي إليه فإني قاتله . فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام ، وكتب معه أمانا لأهل مكة إن هم أطاعوا .

            قالوا : فخرج الحجاج في جمادى من هذه السنة ومعه ألفا فارس من أهل الشام ، فسلك طريق العراق ، ولم يعرض للمدينة حتى نزل الطائف ، وجعل يبعث البعوث إلى عرفة ، ويرسل ابن الزبير الخيول فيلتقيان ، فتهزم خيل ابن الزبير ، وتظفر خيل الحجاج ، ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم ، ومحاصرة ابن الزبير ; فإنه قد كلت شوكته ، وتفرق عنه عامة أصحابه ، وسأله أن يمده برجال أيضا ، فكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه بالحجاج ، وكان طارق يتولى المدينة لعبد الملك ، وكان قد أمره عبد الملك أن يكون مقيما بوادي القرى بمن معه من جيش المدينة وغيرها ، وكان في نحو خمسة آلاف ، من الشام منهم ثلاثة آلاف ، وارتحل الحجاج من الطائف ، فنزل بئر ميمون ، وحصر ابن الزبير بالمسجد ، فلما دخل ذو الحجة حج بالناس الحجاج في هذه السنة ، وعليه وعلى أصحابه السلاح ، وهم وقوف بعرفات ، وكذا فيما بعدها من المشاعر ، وابن الزبير محصور لم يتمكن من الحج هذه السنة ، بل نحر بدنا يوم النحر ، وهكذا لم يتمكن كثير ممن معه من الحج ، وكذا لم يتمكن كثير ممن مع الحجاج وطارق بن عمرو أن يطوفوا بالبيت ، فبقوا على إحرامهم لم يحصل لهم التحلل الثاني ، والحجاج وأصحابه نزول بين الحجون وبئر ميمون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

            بيعة عبد الله بن خازم ومقتله

            قال ابن جرير : وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم أمير خراسان يدعوه إلى بيعته ، ويقطعه خراسان سبع سنين  ، فلما وصل إليه الكتاب قال للرسول : بعثك أبو الذبان ؟ والله لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ، ولكن كل كتابه . فأكله ، وبعث عبد الملك إلى بكير بن وشاح نائب ابن خازم على مرو يعده بإمرة خراسان إن هو خلع عبد الله بن خازم ، فخلعه ، فجاءه ابن خازم فقاتله فقتل في المعركة عبد الله بن خازم ، قتله رجل يقال له : وكيع بن عميرة ، لكن كان قد ساعده غيره ، فجلس وكيع على صدره وفيه رمق ، فذهب لينوء فلم يتمكن من ذلك ، وجعل وكيع يقول : يا ثارات دويلة - يعني أخاه - وكان دويلة قد قتله ابن خازم ، ثم إن ابن خازم تنخم في وجه وكيع ، قال وكيع : لم أر أحدا أكثر ريقا منه في تلك الحال . وكان أبو هبيرة إذا ذكر هذا يقول : هذه والله البسالة . وقال له ابن خازم : ويحك ، أتقتلني بأخيك ؟ لعنك الله ، أتقتل كبش مضر بأخيك العلج وكان لا يساوي كفا من تراب ؟ أو قال : من نوى . قالوا : فاحتز رأسه ، وأقبل بكير بن وشاح فأراد أخذ الرأس فمنعه منه بحير بن ورقاء ، فضربه بكير بن وشاح بعمود وقيده ، ثم أخذ الرأس ، ثم بعثه إلى عبد الملك بن مروان ، وكتب إليه بالنصر والظفر ، ومقتل عبد الله بن خازم ، فسر بذلك سرورا كثيرا ، وكتب إلى بكير بن وشاح فأقره على نيابة خراسان .

            استنابة عبد الملك بن مروان لطارق بن عمرو على المدينة

            وفي هذه السنة أخذت المدينة من نواب ابن الزبير ، واستناب فيها عبد الملك بن مروان طارق بن عمرو الذي كان بعثه مددا للحجاج على ابن الزبير .

            ترجمة عبد الله بن خازم

            وهذه ترجمة ابن خازم  

            هو عبد الله بن خازم بن أسماء السلمي ، أبو صالح البصري ، أمير خراسان ، أحد الشجعان المذكورين ، والفرسان المشكورين . قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في " تهذيبه " : يقال : له صحبة . روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في العمامة السوداء ، وهو عند أبي داود والترمذي والنسائي ، لكن لم يسموه .

            روى عنه سعد بن عثمان الرازي ، وسعيد بن الأزرق . روى أبو بشر الدولابي أنه قتل في سنة إحدى وسبعين ، وقيل : في سنة سبع وثمانين . وليس هذا القول بشيء . انتهى ما ذكره شيخنا في التهذيب .

            وقد ذكره الحافظ أبو الحسن ابن الأثير في " الغابة في أسماء الصحابة " ، فقال : عبد الله بن خازم بن أسماء بن الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن سماك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور ، أبو صالح السلمي ، أمير خراسان ، شجاع مشهور ، وبطل مذكور ، روى عنه سعيد بن الأزرق ، وسعد بن عثمان ، قيل : إن له صحبة ، وفتح سرخس ، وكان أميرا على خراسان أيام فتنة ابن الزبير ، وأول ما وليها سنة أربع وستين ، بعد موت يزيد بن معاوية وابنه معاوية ، وجرى له فيها حروب كثيرة ، حتى تم أمره بها ، وقد استقصينا أخباره في كتاب " الكامل في التاريخ " ، وقتل سنة إحدى وسبعين بخراسان ، هكذا قال : إنه قتل سنة إحدى وسبعين . وهكذا حكى شيخنا عن الدولابي ، وكذا رأيت في " التاريخ " لشيخنا أبي عبد الله الذهبي ، والذي ذكره ابن جرير في سياق " تاريخه " أنه قتل سنة ثنتين وسبعين .

            قال ابن جرير : وزعم بعضهم أنه إنما قتل بعد مقتل عبد الله بن الزبير ، وأن عبد الملك بعث برأس ابن الزبير إلى ابن خازم ، ويدعوه إلى طاعته وله خراسان عشر سنين ، وأن ابن خازم لما رأى رأس ابن الزبير حلف لا يعطيه طاعة أبدا ، ودعا بطست فغسل رأس ابن الزبير - والله أعلم - وأطعم الكتاب للرسول الذي جاء به ، وقال : لولا أنك رسول لضربت عنقك . وقال بعضهم : بل قطع يديه ورجليه ، وضرب عنقه . نواب الأمصار

            كان العامل على المدينة طارقا لعبد الملك ، وعلى الكوفة بشر بن مروان ، وعلى قضائها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وعلى البصرة خالد بن عبد الله ، وعلى قضائها هشام بن هبيرة ، وعلى خراسان ، في قول بعضهم ، بكير بن وساج ، وفي قول بعضهم ، عبد الله بن خازم . ذكر قصة جرت لطارق بن عمرو مع سعيد بن المسيب  

            عن علي بن الحسين رضي الله عنهما ، قال: ولى علينا عبد الملك بن مروان طارقا مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه . قال علي: فمشيت إلى سالم بن عبد الله بن عمر ، وإلى القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وإلى أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، فقلت: اذهبوا بنا إلى هذا الرجل نسلم عليه ندفع بذلك عن أنفسنا . قال: فأتيناه فسلمنا عليه فأجلسنا عنده ، ثم قال لنا: أيكم سعيد بن المسيب؟ قال: فكلمه القاسم بن محمد ، فقال له: أصلحك الله ، إن سعيد بن المسيب قد رفعت عنه الولاة إتيانها ، وقد ألزم نفسه المسجد ، فليس يبرح منه ، قال: رغب أن يأتيني ، والله لأقتلنه ، والله لأقتلنه ، والله لأقتلنه -ثلاثا- قال القاسم:

            فضاق بنا المجلس حتى قمنا ، فجئت المسجد فتطلعت فيه فإذا سعيد بن المسيب عند أسطوانته جالس ، فدخلت عليه فأخبرته بما كان ، وقلت له: أرى لك أن تخرج الساعة إلى مكة فتعتمر وتقيم بها ، قال: ما حضرتني في ذلك نية ، وإن أحب الأعمال إلي ما نويت ، فقلت له: فإني أرى أن تخرج إلى بعض منازل إخوانك فتقيم فيه حتى ننظر ما يكون من الرجل ، قال: فكيف أصنع بهذا الداعي الذي يدعوني في كل يوم وليلة خمس مرات ، والله لا دعاني إلا أجبته على أي حال كان ، قلت له: فإني أرى أن تقوم من مجلسك هذا فتجلس إلى بعض هذه الأساطين فإنك إن طلبت فإنما تطلب عند أسطوانتك . قال: ولم أقوم من موضعي هذا الذي قد آتاني الله فيه العافية من كذا وكذا سنة ، [قلت له: رحمك الله ، أما تخاف على نفسك كما يخاف الناس؟ فقال لي]: والله لا أحلف بالله كاذبا ما خفت شيئا سواه ، قلت له: فبماذا أقوم من عندك رحمك الله ، فقد غممتني ، فقال: تقوم بخير ، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينسيه ذكري .

            قال: فانصرفت من عنده فجعلت أسأل فرط الأيام [هل كان في المسجد خبر؟] فلا أخبر إلا بخير . قال: فأقام علينا واليا سنة لا يذكره ولا يخطر بباله حتى إذا عزل وصار بوادي القرى من المدينة على خمس مراحل ، قال لغلامه وهو يوضئه: ويحك! أمسك ، واسوءتاه من علي بن الحسين ، ومن القاسم بن محمد ، ومن سالم بن عبد الله ، ومن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، حلفت بين أيديهم ثلاثة أيمان لأقتلن سعيد بن المسيب ، والله ما ذكرته إلا في ساعتي هذه ، فقال له غلامه ، يا مولاي تأذن لي أن أكلمك؟ قال: نعم ، قال: فما أراد الله لك خير مما أردت لنفسك إذ أنساك ذكره .

            فقال له: اذهب فأنت حر .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية