الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            تولية الحجاج الثقفي إمرة المدينة

            ثم دخلت سنة أربع وسبعين  

            فيها عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن إمرة المدينة ، وأضافها إلى الحجاج بن يوسف الثقفي ، فقدمها الحجاج ، فأقام بها شهرا ، ثم خرج معتمرا ، ثم عاد إلى المدينة في صفر ، فأقام بها ثلاثة أشهر ، وبنى في بني سلمة مسجدا ، وهو الذي ينسب إليه اليوم >

            ختم الحجاج بعض الصحابة في أعناقهم وأيديهم

            ويقال : إن الحجاج في هذه السنة وهذه المدة ختم جابرا ، و سهل بن سعد ، وقرعهما ; لم لا نصرا عثمان بن عفان ، وخاطبهما خطابا غليظا - قبحه الله وأخزاه - وقد استقضى أبا إدريس الخولاني - أظنه - على اليمن ، والله أعلم .

            وقال الواقدي : إن الحجاج لما قدم المدينة صعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخطب الناس وقال : يا أهل خبيثة - يعني طيبة - أنتم شر أمة وأخس ، ولولا أن أمير المؤمنين أوصاني بكم لجعلتها مثل جوف حمار ، يا أهل خبيثة ، تمنون ، هل تعوذون إلا بأعواد يابسة - يعني المنبر - ورمة بالية ، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل إلى سهل بن سعد الساعدي ، فقال : ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان ؟ فقال : قد فعلت . فقال : كذبت . ثم أمر به فختم في عنقه برصاص ، وكذلك فعل بجابر بن عبد الله ; ختمه في يده ، وأنس بن مالك في عنقه ، وكان قصده يذلهم بذلك ، فقال أنس : إن أهل الذمة لا يجوز أن يفعل بهم هذا .

            نقض الحجاج الثقفي بنيان الكعبة

            قال ابن جرير : وفيها نقض الحجاج بنيان الكعبة  الذي كان ابن الزبير بناه ، وأعادها على بنيانها الأول .

            قلت : الحجاج لم ينقض بنيان الكعبة جميعه ؛ بل إنما هدم الحائط الشامي ، حتى أخرج الحجر من البيت ، ثم سده ، وأدخل في جوف الكعبة ما فضل من الأحجار ، وبقيت الحيطان الثلاثة بحالها ; ولهذا بقي البابان الشرقي والغربي وهما ملصقان بالأرض ، كما هو المشاهد إلى يومنا هذا ، ولكن سد الغربي بالكلية ، وردم أسفل الشرقي ، حتى جعله مرتفعا كما كان في الجاهلية ، ولم يبلغ الحجاج ولا عبد الملك ما كان بلغ ابن الزبير من العلم النبوي ، الذي كانت أخبرته به خالته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق ، رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما تقدم ذلك - من قوله : لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر - وفي رواية : بجاهلية - لنقضت الكعبة ، وأدخلت فيها الحجر ، وجعلت لها بابا شرقيا ، وبابا غربيا ، ولألصقتهما بالأرض ، فإن قومك قصرت بهم النفقة ، فلم يدخلوا فيها الحجر ، ولم يتمموها على قواعد إبراهيم ، ورفعوا بابها ليدخلوا من شاءوا ، ويمنعوا من شاءوا فلما تمكن ابن الزبير بناها كذلك ، ولما بلغ عبد الملك هذا الحديث بعد ذلك قال : وددنا أنا تركناه وما تولى من ذلك .

            تولية المهلب بن أبي صفرة حرب الأزارقة

            وفي هذه السنة ولي المهلب بن أبي صفرة حرب الأزارقة عن أمر عبد الملك لأخيه بشر بن مروان أن يجهز المهلب إلى الخوارج الأزارقة في جيوش من أهل البصرة والكوفة ، ووجد بشر على المهلب في نفسه ، حيث عينه عبد الملك في كتابه ; فلم يجد بدا من طاعته في تأميره على الناس في هذه الغزوة ، وما كان له من الأمر شيء ، غير أنه أوصى أمير الكوفيين عبد الرحمن بن مخنف أن يستبد بالأمر دونه ، وأن لا يقبل له رأيا ولا مشورة ، فسار المهلب بأهل البصرة ، وأمراء الأرباع معه على منازلهم ، حتى نزل برامهرمز ، فلم يقم عليها إلا عشرا حتى جاء نعي بشر بن مروان ، وأنه مات بالبصرة ، واستخلف عليها خالد بن عبد الله ، فارفض بعض الجيش ، ورجعوا إلى البصرة ، فبعثوا في آثارهم من يردهم ، وكتب خالد بن عبد الله إلى الفارين يتوعدهم إن لم يرجعوا إلى أميرهم ، ويتوعدهم بسطوة عبد الملك ، فعدلوا يستأذنون عمرو بن حريث في المصير إلى الكوفة ، فكتب إليهم : إنكم تركتم أميركم ، وأقبلتم عاصين مخالفين ، وليس لكم إذن ولا إمام ولا أمان . فلما جاءهم ذلك ، أقبلوا إلى رحالهم فركبوها ، ثم ساروا إلى بعض البلاد ، فلم يزالوا مختفين بها حتى قدم الحجاج واليا على العراق مكان بشر بن مروان

            ذكر عزل بكير عن خراسان ، وولاية أمية بن عبد الله بن خالد  

            في هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وساج عن خراسان ، وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد ، وكانت ولاية بكير سنتين .

            وكان سبب عزله أن تميما اختلفت بها ، فصارت مقاعس والبطون يتعصبون لبحير ، ويطلبون بكيرا ، وصارت عوف والأبناء يتعصبون لبكير ، وكل هذه بطون من بني تميم ، فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم المشركون ، فكتبوا إلى عبد الملك بذلك ، وأنها لا تصلح إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه ، فاستشار عبد الملك فيمن يوليه ، فقال أمية : يا أمير المؤمنين ، تداركهم برجل منك . قال : لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها . قال : يا أمير المؤمنين ، والله ما انهزمت حتى خذلني الناس ، ولم أجد مقاتلا ، فرأيت أن انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبة بقيت من المسلمين للهلكة ، وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري ، وقد علم الناس ذلك . فولاه خراسان . وكان عبد الملك يحبه ، فقال الناس : ما رأينا أحدا عوض من هزيمة ما عوض أمية .

            فلما سمع بكير بمسيره أرسل إلى بحير وهو في حبسه ، وقد تقدم ذكر ذلك في مقتل ابن خازم ، يطلب منه الصلح ، فامتنع بحير وقال : ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة . ومشت السفراء بينهم ، فأبى ذلك بحير ، فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي فقال : أراك أحمق ! يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك ، وأنت أسيره والسيف بيده ، ولو قتلك ما حبقت ، فلا تقبل منه ؟ ! اقبل الصلح ، واخرج وأنت على رأس أمرك . فقبل منه وصالح بكيرا . فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا ، وأخذ عليه ألا يقاتله ، وخرج بحير فأقام يسأل عن مسير أمية ، فلما بلغه أنه قد قارب نيسابور سار إليه ولقيه بها ، فأخبره عن خراسان وما يحسن به طاعة أهلها ، ورفع على بكير أموالا أخذها ، وحذره غدره وسار معه حتى قدم مرو ، وكان أمية كريما ، ولا يعرض لبكير ولا لعماله ، وعرض عليه شرطته فأبى ، فولاها بحير بن ورقاء ، فلام بكيرا رجال من قومه ، فقال : كنت بالأمس أميرا تحمل الحراب بين يدي ، فأصير اليوم أحمل الحربة !

            ثم خير أمية بكيرا أن يوليه ما شاء من خراسان ، فاختار طخارستان ، قال : فتجهز لها ، فأنفق مالا كثيرا . فقال بحير لأمية : إن أتى طخارستان خلعك . وحذره ، فلم يوله .

            أسيد بفتح الهمزة ، وكسر السين . وبحير بفتح الباء الموحدة ، وكسر الحاء . ذكر ولاية عبد الله بن أمية سجستان  

            لما وصل أمية بن عبد الله إلى كرمان استعمل ابنه عبد الله على سجستان ، فلما قدمها غزا رتبيل الذي ملك بعد المقتول الأول ، وكان رتبيل هائبا للمسلمين ، فلما وصل عبد الله إلى بست أرسل رتبيل يطلب الصلح وبذل ألف ألف ، وبعث إليه بهدايا ورقيق ، فأبى عبد الله قبول ذلك وقال : إن ملأ لي هذا الرواق ذهبا ، وإلا فلا صلح . وكان غرا ، فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها ، وأخذ عليه الشعاب والمضايق ، وطلب أن يخلي عنه وعن المسلمين ولا يأخذ منه شيئا ، فأبى رتبيل وقال : بل يأخذ ثلاثمائة ألف درهم صلحا ، ويكتب لنا به كتابا ، ولا يغزو بلادنا ما كنت أميرا ، ولا يحرق ولا يخرب . ففعل ، وبلغ ذلك عبد الملك فعزله . ذكر ولاية حسان بن النعمان إفريقية  

            قد ذكرنا ولاية زهير بن قيس سنة اثنتين وستين ، وكان قتله سنة تسع وستين ، فلما علم عبد الملك قتله عظم عليه وعلى المسلمين وأهمه ذلك ، وشغله عن إفريقية ما كان بينه وبين ابن الزبير ، فلما قتل ابن الزبير واجتمع المسلمون عليه ، جهز جيشا كثيرا ، واستعمل عليهم وعلى إفريقية حسان بن النعمان الغساني ، وسيرهم إليها في هذه السنة ، فلم يدخل إفريقية قط جيش مثله .

            فلما ورد القيروان تجهز منها وسار إلى قرطاجنة ، وكان صاحبها أعظم ملوك إفريقية ، ولم يكن المسلمون قط حاربوها ، فلما وصل إليها رأى بها من الروم والبربر ما لا يحصى كثرة ، فقاتلهم وحصرهم وقتل منهم كثيرا ، فلما رأوا ذلك اجتمع رأيهم على الهرب ، فركبوا في مراكبهم ، وسار بعضهم إلى صقلية ، وبعضهم إلى الأندلس ، ودخلها حسان بالسيف ، فسبى ونهب ، وقتلهم قتلا ذريعا ، وأرسل الجيوش فيما حولها ، فأسرعوا إليه خوفا ، فأمرهم فهدموا من قرطاجنة ما قدروا عليه .

            ثم بلغه أن الروم والبربر قد اجتمعوا له في صطفورة وبنزرت ، وهما مدينتان ، فسار إليهم وقاتلهم ، ولقي منهم شدة وقوة ، فصبر لهم المسلمون ، فانهزمت الروم وكثر القتل فيهم ، واستولوا على بلادهم ، ولم يترك حسان موضعا من بلادهم إلا وطئه ، وخافه أهل إفريقية خوفا شديدا ، ولجأ المنهزمون من الروم إلى مدينة باجة ، فتحصنوا بها ، وتحصن البربر بمدينة بونة ، فعاد حسان إلى القيروان لأن الجراح قد كثرت في أصحابه ، فأقام بها حتى صحوا . ذكر تخريب إفريقية  

            لما صلح الناس قال حسان : دلوني على أعظم من بقي من ملوك إفريقية ، فدلوه على امرأة تملك البربر تعرف بالكاهنة ، وكانت تخبرهم بأشياء من الغيب ، ولهذا سميت الكاهنة ، وكانت بربرية ، وهي بجبل أوراس ، وقد اجتمع حولها البربر بعد قتل كسيلة ، فسأل أهل إفريقية عنها ، فعظموا محلها وقالوا له : إن قتلتها لم تختلف البربر بعدها عليك . فسار إليها ، فلما قاربها هدمت حصن باغاية ظنا منها أنه يريد الحصون ، فلم يعرج حسان على ذلك وسار إليها ، فالتقوا على نهر نيني ، واقتتلوا أشد قتال رآه الناس ، فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير ، وانهزم حسان وأسر جماعة كثيرة أطلقتهم الكاهنة ، سوى خالد بن يزيد القيسي ، وكان شريفا شجاعا ، فاتخذته ولدا .

            وسار حسان حتى فارق إفريقية ، وأقام وكتب إلى عبد الملك يعلمه الحال ، فأمره عبد الملك بالمقام إلى أن يأتيه أمره . فأقام بعمل برقة خمس سنين ، فسمي ذلك المكان قصور حسان إلى الآن ، وملكت الكاهنة إفريقية كلها ، وأساءت السيرة في أهلها وعسفتهم وظلمتهم .

            ثم سير إليه عبد الملك الجنود والأموال ، وأمره بالمسير إلى إفريقية وقتال الكاهنة ، فأرسل حسان رسولا سرا إلى خالد بن يزيد ، وهو عند الكاهنة ، بكتاب يستعلم منه الأمور ، فكتب إليه خالد جوابه في رقعة يعرفه تفرق البربر ، ويأمره بالسرعة ، وجعل الرقعة في خبزة ، وعاد الرسول ، فخرجت الكاهنة ناشرة شعرها تقول : ذهب ملكهم فيما يأكل الناس . فطلب الرسول فلم يوجد ، فوصل إلى حسان وقد احترق الكتاب بالنار ، فعاد إلى خالد وكتب إليه بما كتب أولا ، وأودعه قربوس السرج .

            فسار حسان ، فلما علمت الكاهنة بمسيره إليها قالت : إن العرب يريدون البلاد والذهب والفضة ، ونحن إنما نريد المزارع والمراعي ، ولا أرى إلا [ أن ] أخرب إفريقية حتى ييأسوا منها . وفرقت أصحابها ليخربوا البلاد ، فخربوها وهدموا الحصون ونهبوا الأموال ، وهذا هو الخراب الأول لإفريقية .

            فلما قرب حسان من البلاد لقيه جمع من أهلها من الروم يستغيثون من الكاهنة ، ويشكون إليه منها ، فسره ذلك وسار إلى قابس ، فلقيه أهلها بالأموال والطاعة ، وكانوا قبل ذلك يتحصنون من الأمراء ، وجعل فيها عاملا ، وسار إلى قفصة ليتقرب الطريق ، فأطاعه من بها واستولى عليها وعلى قسطيلية ونفزاوة .

            وبلغ الكاهنة قدومه ، فأحضرت ولدين لها وخالد بن يزيد ، وقالت لهم : إنني مقتولة ، فامضوا إلى حسان ، وخذوا لأنفسكم منه أمانا . فساروا إليه وبقوا معه ، وسار حسان نحوها ، فالتقوا واقتتلوا ، واشتد القتال ، وكثر القتل حتى ظن الناس أنه الفناء ، ثم نصر الله المسلمين ، وانهزم البربر وقتلوا قتلا ذريعا ، وانهزمت الكاهنة ، ثم أدركت فقتلت .

            ثم إن البربر استأمنوا إلى حسان ، فآمنهم وشرط عليهم أن يكون منهم عسكر مع المسلمين عدتهم اثنا عشر ألفا يجاهدون العدو ، فأجابوه إلى ذلك ، فجعل على هذا العسكر ابني الكاهنة . ثم فشا الإسلام في البربر ، وعاد حسان إلى القيروان في رمضان من السنة ، وأقام لا ينازعه أحد إلى أن توفي عبد الملك .

            فلما ولي الوليد بن عبد الملك ولى إفريقية عمه عبد الله بن مروان ، فعزل عنها حسان ، واستعمل موسى بن نصير سنة تسع وثمانين ، على ما نذكره إن شاء الله .

            وقد ذكر الواقدي أن الكاهنة خرجت غضبا لقتل كسيلة ، وملكت إفريقية جميعها ، وعملت بأهلها الأفاعيل القبيحة ، وظلمتهم الظلم الشنيع ، ونال من بالقيروان من المسلمين أذى شديدا بعد قتل زهير بن قيس سنة سبع وستين ، فاستعمل عبد الملك على إفريقية حسان بن النعمان ، فسار في جيوش كثيرة وقصد الكاهنة ، فاقتتلوا ، فانهزم المسلمون وقتل منهم جماعة كثيرة ، وعاد حسان منهزما إلى نواحي برقة ، فأقام بها إلى سنة أربع وسبعين ، فسير إليه عبد الملك جيشا كثيفا ، وأمره بقصد الكاهنة ، فسار إليها وقاتلها فهزمها ، وقتلها وقتل أولادها ، وعاد إلى القيروان .

            وقيل : إنه لما قتل الكاهنة عاد من فوره إلى عبد الملك ، واستخلف على إفريقية رجلا اسمه أبو صالح ، إليه ينسب فحص صالح . ذكر عدة حوادث

            حج بالناس هذه السنة الحجاج بن يوسف  ، وكان على قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة ، وعلى قضاء الكوفة شريح ، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة .

            وقيل : إن عبد الملك اعتمر هذه السنة . ولا يصح .

            ( وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة ، فبلغ أندولية ) .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية