الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة

            ذكر الحسن بن إبراهيم بن عبد الله  

            في هذه السنة حول المهدي الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي من محبسه .

            وسبب ذلك أنه كان محبوسا مع يعقوب بن داود في موضع واحد ، فلما أطلق يعقوب وبقي هو ساء ظنه ، فالتمس مخرجا ، فأرسل إلى بعض من يثق به ، فحفر سربا إلى الموضع الذي هو فيه .

            فبلغ ذلك يعقوب ، فأتى ابن علاثة القاضي ، وكان قد اتصل به ، فقال : عندي نصيحة للمهدي ، وطلب إليه إيصاله إلى أبي عبيد الله وزيره ، ليرفعها إليه ، فأحضره عنده ، فلما سأله عن نصيحته ، سأله عن إيصاله إلى المهدي ليعلمه بها ، فأوصله إليه ، فاستخلاه ، فأعلمه المهدي ثقته بوزيره وابن علاثة ، فلم يقل شيئا ، حتى قاما ، فأخبره خبر الحسن ، فأنفذ من يثق به ، فأتاه بتحقيق الحال ، فأمر بتحويل الحسن ، فحول .

            ثم احتيل له فيما بعد ، فهرب وطلب ، فلم يظفر به ، فأحضر المهدي يعقوب وسأله عنه ، فأخبره أنه لا يعلم مكانه ، وأنه إن أعطاه الأمان أتاه به فآمنه وضمن له الإحسان ، فقال له : اترك طلبه ، فإن ذلك يوحشه ، فترك طلبه .

            ثم إن يعقوب تقدم عند المهدي ، فأحضر الحسن بن إبراهيم عنده . ذكر تقدم يعقوب عند المهدي  

            قد تقدم ذكر وصوله إليه ، فلما أحضره المهدي عنده في أمر الحسن بن إبراهيم ، كما تقدم ، قال له : يا أمير المؤمنين ! إنك قد بسطت عدلك لرعيتك ، وأنصفتهم ، وأحسنت إليهم ، فعظم رجاؤهم ، وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها ، وأشياء خلف بابك تعمل فيها ولا تعلم بها ، فإن جعلت إلي السبيل إليك ورفعتها .

            فأمر بذلك ، فكان يدخل عليه كلما أراد ، ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة ، من أمر الثغور ، وبناء الحصون ، وتقوية الغزاة وتزويج العزاب ، وفكاك الأسرى والمحبوسين ، والقضاء عن الغارمين ، والصدقة على المتعففين ، فحظي عنده بذلك ، وعلت منزلته ، حتى سقطت منزلة أبي عبيد الله ، وحبس ، وكتب المهدي توقيعا قد اتخذه أخا في الله ، ووصله بمائة ألف . ذكر ظهور المقنع بخراسان  

            وفي هذه السنة قبل موت حميد بن قحطبة ، ظهر المقنع بخراسان ، وكان رجلا أعور ، قصيرا ، من أهل مرو ، ويسمى حكيما ، وكان اتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه لئلا يرى ، فسمي المقنع وادعى الألوهية ، ولم يظهر ذلك إلى جميع أصحابه .

            وكان يقول : إن الله خلق آدم ، فتحول في صورته ، ثم في صورة نوح ، وهكذا هلم جرا إلى أبي مسلم الخراساني ، ثم تحول إلى هاشم ، وهاشم في دعواه ، هو المقنع ، ويقول بالتناسخ ، وتابعه خلق من ضلال الناس ، وكانوا يسجدون له من أي النواحي كانوا ، وكانوا يقولون في الحرب : يا هاشم أعنا .

            واجتمع إليه خلق كثير ، وتحصنوا في قلعة بسنام ، وسنجردة ، وهي من رساتيق كش ، وظهرت المبيضة ببخارى والصغد معاونين له ، وأعانه كفار الأتراك ، وأغاروا على أموال المسلمين .

            وكان يعتقد أن أبا مسلم أفضل من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ينكر قتل يحيى بن زيد ، وادعى أنه يقتل قاتليه .

            واجتمعوا بكش ، وغلبوا على بعض قصورها ، وعلى قلعة نواكث ، وحاربهم أبو النعمان ، والجنيد ، وليث بن نصر ، مرة بعد مرة ، وقتلوا حسان بن تميم بن نصر بن سيار ، ومحمد بن نصر وغيرهما .

            وأنفذ إليهم جبرائيل بن يحيى وأخاه يزيد ، فاشتغلوا بالمبيضة الذين كانوا ببخارى ، فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكث ، ونقبها عليهم ، فقتل منهم سبعمائة ، وقتل الحكم ، ولحق منهزموهم بالمقنع ، وتبعهم جبرائيل ، وحاربهم .

            ثم سير المهدي أبا عون لمحاربة المقنع ، فلم يبالغ في قتاله ، واستعمل معاذ بن مسلم . ذكر عدة حوادث  

            في هذه السنة عزل المهدي إسماعيل عن الكوفة ، واستعمل عليها إسحاق بن الصباح الكندي ثم الأشعثي ، وقيل عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب الجمحي .

            وفيها عزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة ، وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة ، واستعمل مكانهما عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري ، وأمره بإنصاف من تظلم من سعيد بن دعلج ، ثم صرفت الأحداث فيها إلى عمارة بن حمزة فولاها المسور بن عبد الله الباهلي .

            وفيها عزل قثم بن العباس عن اليمامة ، فوصل كتاب عزله وقد مات ، واستعمل مكانه بشر بن المنذر البجلي .

            وفيها عزل الهيثم بن سعيد عن الجزيرة ، واستعمل عليها الفضل بن صالح .

            وفيها أعتق المهدي الخيزران أم ولده ، وتزوجها وتزوج أم عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد الملك .

            وفيها احترقت السفن عند قصر عيسى ببغداذ بما فيها ، واحترق ناس كثير .

            وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر ، واستعمل عليها أبو ضمرة محمد بن سليمان .

            وفيها غزا العباس بن محمد الصائفة الرومية ، وعلى المقدمة الحسن الوصيف ، فبلغوا أنقرة ، وفتحوا مدينة للروم ، ومطمورة ، ولم يصب من المسلمين أحد ، ورجعوا سالمين .

            وفيها ولي حمزة بن يحيى سجستان ، وجبرائيل بن يحيى سمرقند ، فبنى سورها ، وحفر خندقها .

            عزل عبد الصمد بن علي عن المدينة

            وفيها عزل عبد الصمد بن علي عن المدينة ، واستعمل عليها محمد بن عبد الله الكثيري ، ثم عزله واستعمل مكانه محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان الجمحي .

            بناء سور رصافة

            وفيها بنى المهدي سور الرصافة ومسجدها ، وحفر خندقها .

            إطلاق المهدي من كان في حبس المنصور

            وفيها أطلق المهدي من كان في حبوس المنصور ، إلا من كان عنده تبعة من دم أو مال ، أو من يسعى في الأرض بالفساد ، وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود ، مولى بني سليم .

            من حج في هذه السنة

            وحج بالناس هذه السنة يزيد بن منصور خال المهدي ، عند قدومه من اليمن ، وكان المهدي قد كتب إليه بالقدوم عليه وتوليته الموسم .

            وكان أمير المدينة : عبد الله بن صفوان الجمحي ، وعلى أحداث الكوفة : إسحاق بن الصباح الكندي ، وعلى خراجها : ثابت بن موسى ، وعلى قضائها : شريك ، وعلى صلاة البصرة : عبد الملك بن أيوب ، وعلى أحداثها : عمارة بن حمزة ، وعلى قضائها : عبيد الله بن الحسن ، وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس : ( عمارة بن حمزة ) .

            وعلى السند بسطام بن عمرو ، وعلى اليمن رجاء بن روح ، وعلى اليمامة بشر بن المنذر ، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بن يزيد ، وكان حميد بن قحطبة قد مات فيها ، فولى المهدي أبا عون .

            وكان على الجزيرة الفضل بن صالح ، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم ، وعلى مصر أبو ضمرة محمد بن سليمان .

            بعث عبد الرحمن إلى شقنا في شنت برية

            ( وفيها كان شقنا قد انتشر في نواحي شنت برية ، فسير إليه عبد الرحمن ، صاحب الأندلس ، جيشا ، ففارق مكانه ، وصعد الجبال كعادته فعاد الجيش عنه ) .

            مبايعة المهدي بولاية العهد للهادي ثم الرشيد

            ولما ولي المهدي سأل عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من بعد المهدي - أن يخلع نفسه من الأمر ، فامتنع على المهدي ، وسأل أن يقيم بأرض الكوفة في ضيعة له ، فأذن له ، وكان قد استقر على إمرة الكوفة روح بن حاتم ، فكتب إلى المهدي : إن عيسى بن موسى لا يأتي الجمعة ولا الجماعة مع الناس إلا شهرين من السنة ، وإنه إذا جاء يدخل بدوابه إلى داخل باب المسجد ، فتروث دوابه حيث يصلي الناس . فكتب إليه المهدي أن يعمل خشبا على أفواه السكك; حتى لا يصل الناس إلى الجامع إلا مشاة ، فعلم بذلك عيسى بن موسى ، فاشترى قبل الجمعة دار المختار بن أبي عبيد من ورثته ، وكانت ملاصقة المسجد ، فكان يأتي إليها من يوم الخميس ، فإذا كان وقت الجمعة ركب حمارا إلى باب المسجد ، فنزل عنه ، وشهد الصلاة مع الناس ، وأقام بالكلية في الكوفة بأهله ، ثم ألح المهدي على عيسى بن موسى في أن يخلع نفسه من ولاية العهد ، وتوعده إن لم يفعل ، ووعده إن فعل ، فأجابه إلى ذلك ، فأعطاه أقطاعا عظيمة ، وجعل له من المال عشرة آلاف ألف درهم ، وقيل : عشرين ألف ألف . وبايع المهدي لولديه من بعده; موسى الهادي ، ثم لهارون الرشيد . وفيها : حج المهدي فأنهى إليه حجبة الكعبة : أنهم يخافون هدمها; لكثرة ما عليها من الأستار ، فأمر بها فجردت واقتصر على كسوة المهدي ، وحمل إلى المهدي الثلج إلى مكة ، قال الذهبي : (ولم يتهيأ ذلك لملك قط ) .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية