الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ وفاة الخيزران ] وفي سنة ثلاث وسبعين ومائة ماتت الخيزران  وهي أم أميري المؤمنين الهادي والرشيد ، اشتراها المهدي وحظيت عنده جدا ، ثم أعتقها وتزوجها ، وولدت له خليفتين; موسى الهادي والرشيد ، .

            وقد روي من طريق الخيزران ، عن مولاها المهدي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من اتقى الله وقاه الله كل شيء .

            ولما عرضت على المهدي ليشتريها أعجبته إلا دقة ساقيها ، فقال لها : يا جارية ، إنك لعلى غاية المنى لولا خموشة في ساقيك . فقالت : يا أمير المؤمنين ، إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما . فاستحسن جوابها واشتراها ، وحظيت عنده جدا .

            وعن الواقدي قال: دخلت يوما إلى المهدي فدعا بمحبرته ودفتره ، وكتب عني أشياء حدثته بها ، ثم نهض وقال: كن بمكانك حتى أعود إليك ، ودخل إلى دار الحرم ثم خرج متنكرا ممتلئا غيظا ، فلما جلس: قلت يا أمير المؤمنين خرجت على خلاف الحال التي دخلت عليها؟ قال: نعم دخلت على الخيزران فوثبت إلي ومدت يدها إلي وخرقت ثوبي ، وقالت: يا قشاش ، وأي خير رأيت منك؟ وإنما اشتريتها من نخاس ورأت مني ما رأت وعقدت لابنيها ولاية العهد ويحك وأنا قشاش؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام" وقال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" ، وقال: "خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته" . وحدثته في هذا الباب بكل ما حضرني ، فسكن غضبه ، وأسفر وجهه ، وأمر لي بألفي دينار ، وقال: أصلح بهذه من حالك ، وانصرفت ، فلما وصلت إلى منزلي وافاني رسول الخيزران ، فقال: تقرأ عليك ستي السلام ، وتقول لك: يا عم قد سمعت جميع ما كلمت به أمير المؤمنين ، فأحسن الله جزاك ، وهذه ألفا دينار إلا عشرة دنانير بعثت بها إليك لأني لم أحب أن أساوي صلة أمير المؤمنين ووجهت إلي بأثواب .

            وعن أبي الفضل بن الربعي قال:

            حدثني أبي قال: سأل رجل الخيزران حاجة ثم أرسل إليها بهدية فأجابته: إن كان ما وجهت به من هديتك ثمنا لرأيي فيك فلقد بخستني القيمة ، وإن كان استزادة فقد استغششتني في المودة وردتها عليه .

            وقد حجت الخيزران مرة في حياة المهدي ، فكتب إليها وهي بمكة يستوحش لها ، ويتشوق إليها ، يقول :


            نحن في غاية السرور ولكن ليس إلا بكم يتم السرور     عيب ما نحن فيه يا أهل ودي
            أنكم غيب ونحن حضور     فأجدوا في السير بل إن قدرتم
            أن تطيروا مع الرياح فطيروا

            فأجابته أو قالت لمن أجابه :


            قد أتانا الذي وصفت من الشو     ق فكدنا وما فعلنا نطير
            ليت أن الرياح كن يؤدي     ن إليكم ما قد يجن الضمير
            لم أزل صبة فإن كنت بعدي     في سرور فدام ذاك السرور

            وذكروا أنه أهدى إليها محمد بن سليمان نائب البصرة مائة وصيف ، مع كل وصيف جام من فضة مملوء مسكا . فكتبت إليه : إن كان ما بعثته ثمنا عن ظننا فيك فظننا فيك أكثر مما بعثت ، وقد بخستنا في الثمن ، وإن كنت تريد به زيادة المودة فقد اتهمتني في المودة . وردتها عليه .

            وقد اشترت الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران ، فزادتها في المسجد الحرام .

            وكان مغل ضياعها في كل سنة ألف ألف وستين ألفا .

            واتفق موتها ببغداد ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة ، ودفنت بمقابر قريش .

            وروى يحيى بن الحسن أن أخاه حدثه قال: رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران وعليه طيلسان أزرق قد شد به وسطه وهو آخذ بقائمة السرير حافيا يعدو في الطين حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه ودعا بخف ، فصلى عليها ودخل قبرها ، فلما خرج من المقبرة وضع له كرسي فجلس عليه ، ودعا الفضل بن الربيع وقال له: وحق المهدي - وكان لا يحلف بها إلا إذا اجتهد - إني لأهم بالشيء لك من التولية وغيرها فتمنعني أمي فأطيع أمرها ، فخذ الخاتم من جعفر وولي الفضل نفقات العامة والخاصة وبادوريا والكوفة ، فتمت حاله ، وانصرف الرشيد من جنازتها يتمثل بقول متمم بن نويرة:


            كنا كندماني جذيمة حقبة     من الدهر حتى قيل لن تتصدعا
            فلما تفرقنا كأني ومالكا     لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

            وكانت غلة الخيزران ألف ألف وستين ألف درهم ، فاتسع الرشيد بغلتها وأقطع الناس من ضياعها .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية