الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين

            ذكر هرب محمد بن البعيث  

            في هذه السنة هرب محمد بن البعيث بن الجليس ، وكان سبب هربه أنه جيء به أسيرا من أذربيجان إلى سامرا ، وكان رجل يخدمه يسمى خليفة ، وكان المتوكل مريضا ، فأخبر خليفة ابن البعيث أن المتوكل مات ، ولم يكن مات ، وإنما أراد إطماع ابن البعيث في الهرب ، فوافقه على الهرب ، وأعد له دواب ، فهربا إلى موضعه من أذربيجان ، وهو مرند .

            وقيل : كان له قلعة شاهي ، وقلعة يكدر .

            وقيل : إن ابن البعيث كان في حبس إبراهيم بن مصعب ، فتكلم فيه بغا الشرابي ، فأخذ منه الكفلاء نحوا من ثلاثين كفيلا : منهم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني ، فكان يتردد بسامرا ، فهرب إلى مرند ، وجمع بها الطعام ، وهي مدينة حصينة ، وفيها عيون ماء ، ولها بساتين كثيرة داخل البلد .

            وأتاه من أراد الفتنة من ربيعة وغيرهم ، فصار في نحو من ألفين ومائتي رجل ، وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة ، فقصر في طلبه ، فولى المتوكل حمدويه بن علي بن الفضل السعدي أذربيجان ، وسيره على البريد ، وجمع الناس ، وسار إلى ابن البعيث ، فحصره في مرند ، فلما طالت مدة الحصار بعث المتوكل زيرك التركي في مائتي فارس من الأتراك ، فلم يصنع شيئا ، فوجه إليه المتوكل عمر بن سيسيل بن كال في تسع مائة فارس ، فلم يغن شيئا فوجه بغا الشرابي في ألفي فارس .

            وكان حمدويه ، وابن سيسيل ، وزيرك قد قطعوا من الشجر الذي حول مرند نحو مائة ألف شجرة ، ونصبوا عليها عشرين منجنيقا ، ونصب ابن البعيث عليهم مثل ذلك ، فلم يقدروا على الدنو من سور المدينة ، فقتل من أصحاب المتوكل في حربه ، في ثمانية أشهر نحو مائة رجل ، وجرح نحو أربع مائة ، وأصاب أصحابه مثل ذلك ، وكان حمدويه ، وعمر وزيرك ، يغادونه القتال ويراوحونه ، وكان أصحابه يتدلون بالحبال من السور معهم الرماح ، فيقاتلون ، فإذا حمل عليهم أصحاب الخليفة تجاروا إلى السور ، وحموا نفوسهم ، فكانوا يفتحون الباب ، فيخرجون ، فيقاتلون ، ثم يرجعون .

            ولما قرب بغا الشرابي من مرند بعث عيسى بن الشيخ بن السليل ، ومعه أمان لوجوه ابن البعيث ( أن ينزلوا ، وأمان لابن البعيث أن ينزل على حكم المتوكل ، فنزل من أصحابه خلق كثير بالأمان ، ثم فتحوا باب المدينة ، فدخل أصحاب المتوكل ، وخرج ابن البعيث ) هاربا ، فلحقه قوم من الجند ، فأخذوه أسيرا ، وانتهب الجند منزله ومنازل أصحابه ، وبعض منازل أهل المدينة ، ثم نودي بالأمان ، وأخذوا لابن البعيث أختين ، وثلاث بنات ، وعدة من السراري ، ثم وافاهم بغا الشرابي من غد ، فأمر فنودي بالمنع من النهب ، وكتب بالفتح لنفسه ، وأخذ ابن البعيث إليه .

            ذكر إيتاخ وما صار إليه أمره  

            كان إيتاخ غلاما خزريا ، طباخا لسلام الأبرش ، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة ، وكان فيه شجاعة ، فرفعه المعتصم والواثق ، وضم إليه أعمالا كثيرة ، منها المعونة بسامرا مع إسحاق بن إبراهيم .

            وكان المعتصم ، إذا أراد قتل أحد ، فعند إيتاخ يقتل ، وبيده ، فحبس منهم أولا المأمون بن سندس ، وابن الزيات ، وصالح بن عجيف ، وغيرهم ، وكان مع المتوكل في مرتبته ، وإليه الجيش ، والمغاربة ، والأتراك ، والأموال ، والبريد ، والحجابة ، ودار الخلافة

            فلما تمكن المتوكل من الخلافة شرب فعربد على إيتاخ ، فهم إيتاخ بقتله ، فلما أصبح المتوكل قيل له ، فاعتذر إليه ، أنت أبي ، وأنت ربيتني ، ثم وضع عليه من يحسن له الحج ، فاستأذن ( فيه المتوكل ، فأذن ) له ، وصيره أمير كل بلد يدخله ، وخلع عليه ، وسار العسكر جميعه بين يديه ، فلما فارق جعلت الحجابة إلى وصيف في ذي القعدة .

            وقيل إن هذه القصة كانت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين .

            ذكر الخلف بإفريقية  

            في هذه السنة خرج عمرو بن سليم التجيبي المعروف بالقويع على محمد بن الأغلب أمير إفريقية ، فسير إليه جيشا ، فحصره بمدينة تونس هذه السنة ، فلم يبلغوا منه غرضا ، فعادوا عنه .

            فلما دخلت سنة خمس وثلاثين سير إليه ابن الأغلب جيشا ، فالتقوا بالقرب من تونس ، ففارق جيش ابن الأغلب جمع كثير ، وقصدوا القويع فصاروا معه ، فانهزم جيش ابن الأغلب وقوي القويع ، فلما دخلت سنة ست وثلاثين سير محمد بن الأغلب إليه جيشا ، فاقتتلوا ، فانهزم القويع ، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة ، وأدرك القويع إنسان ، فضرب عنقه ، ودخل جيش ابن الأغلب مدينة تونس بالسيف في جمادى الأولى .

            ذكر عدة حوادث

            حج بالناس هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد ( بن علي بن عبد الله بن عباس ) .

            [إظهار المتوكل السنة ونشر الحديث ]  

            [وفي هذه السنة : أظهر المتوكل السنة ونشر الحديث ] .

            وقال إبراهيم بن محمد بن عرفة :

            سنة أربع وثلاثين ومائتين ، فيها : أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين ، وكان فيهم مصعب الزبيري ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وإبراهيم بن عبد الله الهروي ، وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة وكانا من حفاظ الناس ، فقسمت بينهم الجوائز ، وأجريت عليهم الأرزاق ، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس ، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية ، فجلس عثمان بن أبي شيبة في مدينة المنصور ، ووضع له منبر ، فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا . وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في مجلس الرصافة ، فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا .

            وعن [محمد بن يحيى ] الصولي . قال : في سنة أربع وثلاثين ومائتين ، نهى المتوكل عن الكلام في القرآن ، وأشخص الفقهاء والمحدثين إلى سامراء ، منهم : محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، وابنا أبي شيبة ، ومصعب الزبيري ، وأمرهم أن يحدثوا ووصلهم .

            قال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل : سمعت محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب يقول : استأذنت المتوكل أن أرجع إلى البصرة ، ولوددت أني لم أكن أستأذنه كنت أكون في جواره . [قلت : وكيف ؟ ] قال : اشهد على أني جعلت دعائي في المشاهد كلها للمتوكل ، وذلك أن صاحبنا عمر بن عبد العزيز جاء الله به فرد المظالم ، وجاء الله بالمتوكل فرد الدين . [عزل عبيد الله بن أحمد عن القضاء ]

            وفي هذه السنة : عزل عبيد الله بن أحمد عن القضاء وولي الوابصي   .

            قال طلحة بن محمد بن جعفر : عزل المتوكل عبيد الله بن أحمد بن غالب في سنة أربع وثلاثين واستقضى عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر ، ويعرف بالوابصي ، وذلك أنه من ولد وابصة بن معبد ، وكان قبل ذلك على قضاء الرقة ، وكان أهل بغداد قد ضجوا من أصحاب ابن أبي دؤاد وقالوا : لا يلي علينا إلا من نرضى به ، فكتب المتوكل العهد مطلقا ليس عليه اسم أحد ، وأنفذه من سامراء مع يعقوب قوصرة أحد الحجاب الكبار ، وقال : احضر عبد السلام والشيوخ ، واقرأ العهد ، فإذا رضوا به قاضيا وقع على العهد اسمه ، فقدم ففعل ذلك ، فقال الناس : ما نريد إلا الوابصي ، فوقع على الكتاب اسمه ، وحكم في وقته بالرصافة . [ابتدئ ببناء الجامع بسامراء ]

            وفي هذه السنة : ابتدئ ببناء الجامع بسامراء .

            [هبوب ريح شديدة وسموم لم يعهد بمثلها ]

            وفيها : هبت ريح شديدة وسموم لم يعهد بمثلها ، فاتصل ذلك نيفا وخمسين يوما ، وشمل ذلك البصرة والكوفة وبغداد وواسط وعبادان والأهواز ، وقتلت المارة والقوافل ، ثم مضت إلى همذان ، وركدت عليها عشرين يوما ، فأحرقت الزرع ، ثم مضت إلى الموصل فخرجت عليهم من قرية سنجار ، فأهلكت ما مرت به ، ثم ركدت بالموصل فمنعت الناس من الانتشار وعطلت الأسواق ، وزلزلت هراة ومطرت مطرا شديدا ، حتى سقطت الدور ، وكان ذلك من أول الليل إلى الصباح . [خلع المتوكل على إسحاق بن إبراهيم ]  

            وفيها : خلع المتوكل على إسحاق بن إبراهيم وعقد له اللواء ، فسار في موكب عظيم . قال إبراهيم بن عرفة : فزعموا أنه مر في موكبه ، فقال قائل : من هذا ؟ فقالت امرأة هناك : هذا رجل سقط من عين الله فبلغ به ما ترون ! فسئل عنها ، فقالوا : هي أخت بشر بن الحارث ، أو امرأة من أهله . وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى [بن موسى ] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية