الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر  

            أبو عبد الله الزاهد النيسابوري

            أحمد بن حرب بن عبد الله بن سهل بن فيروز ، أبو عبد الله الزاهد النيسابوري ، وقيل : المروزي   .

            سمع سفيان بن عيينة ، وأبا عامر العقدي ، وأبا داود الطيالسي في خلق كثير . [و ] كان عالما ورعا متعبدا ، والكرامية تنتحله ، وورد بغداد أيام أحمد بن حنبل ، وحدث بها .

            قال يحيى بن معين : إن لم يكن أحمد بن حرب من الأبدال فلا أدري من هم .

            وقال إسماعيل بن قتيبة : دخلت على أحمد بن حنبل وقد قدم أحمد بن حرب من مكة ، فقال لي أحمد : من هذا الخراساني الذي قدم ؟ قلت : من زهده كذا وكذا ، ومن ورعه كذا وكذا ، فقال : لا ينبغي لمن يدعي ما يدعيه أن يدخل نفسه في الفتيا .

            وقال أبو عمرو محمد بن يحيى : مر أحمد بن حرب بصبيان يلعبون ، فقال أحدهم : أمسكوا فإن هذا أحمد بن حرب الذي لا ينام الليل قال : فقبض أحمد على لحيته ، وقال : الصبيان يهابونك بأنك لا تنام وأنت تنام . قال : فأحيا الليل بعد ذلك إلى أن توفي لم ينم الليل .

            وبلغنا عن أحمد بن حرب أنه قال : المنازل أربعة ، فثلاثة منها مجاز ، والرابع الحقيقة : عمرنا في الدنيا ، ومكثنا في القبور ، ومقامنا في الحشر ، ومنصرفنا إلى الأبد الذي خلقنا له ، فمثل عمرنا في الدنيا كالمتعشى للحاج لا يطمئنون ولا يحلون الأثقال عن الدواب لسرعة الارتحال ، ومكثنا في القبور مثل أحد المنازل للحاج يضعون الأثقال ويستريحون يوما وليلة ثم يرتحلون ، ومثل مقامنا في الحشر كمقدمهم أمكة يوفون النذور ويقضون النسك ، ثم يتفرقون ، وكذلك القيامة يفترق فيها الناس إلى الجنة أو السعير .

            توفي أحمد بن حرب في رجب هذه السنة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأشهر .

            أبو محمد الثقفي المتكلم

            جعفر بن مبشر [بن أحمد ] بن محمد ، أبو محمد الثقفي المتكلم   .

            أحد المعتزلة البغداديين ، له كتب مصنفة في الكلام ، توفي في هذه السنة .

            أبو خيثمة النسائي

            زهير بن حرب بن شداد ، أبو خيثمة النسائي   .

            ولد سنة ستين ومائة .

            وحدث عن سفيان بن عيينة ، وهشيم ، وابن علية ، وجرير بن عبد الحميد ، ويحيى بن سعيد ، وخلق كثير .

            روى عنه : البخاري ، ومسلم ، وابن أبي الدنيا ، وغيرهم .

            وكان ثقة ثبتا حافظا متقنا . وتوفي في شعبان هذه السنة وهو ابن أربع وسبعين سنة ، وقد قيل : إنه توفي سنة اثنتين وثلاثين وهو غلط .

            أبو الربيع الزهراني العتكي

            سليمان بن داود ، أبو الربيع الزهراني العتكي   .

            سمع مالك بن أنس ، وحماد بن زيد .

            روى عنه أحمد بن حنبل ، وابن المديني والبغوي ، وكان ثقة .

            توفي في رمضان هذه السنة بالبصرة .

            أبو أيوب المنقري البصري المعروف بالشاذكوني

            سليمان بن داود بن بشر بن زياد ، أبو أيوب المنقري البصري ، المعروف بالشاذكوني   .

            حدث عن حماد بن زيد وغيره .

            وكان حافظا مكثرا ، قدم بغداد ، فجالس الحفاظ وذاكرهم ، ثم خرج إلى أصبهان فسكنها .

            يقول محمد بن حفص : سمعت عمرا الناقد يقول : ما كان في أصحابنا أحفظ للأبواب من أحمد بن حنبل ، ولا أسرد للحديث من ابن الشاذكوني ، ولا أعلم بالإسناد من يحيى ما قدر أحد أن يقلب عليه إسنادا قط .

            وقال أبا عبد الله : كان أعلمنا بالرجال يحيى بن معين ، وأحفظنا للأبواب سليمان الشاذكوني ، وكان أحفظنا للطوال علي .

            قال المصنف : قد طعن في الشاذكوني [رحمه الله ] جماعة من العلماء ونسبوه إلى الكذب ، وقلة الدين ، فذهبت بتخليطه بركات علمه .

            فقال أحمد بن حنبل : قد جالس الشاذكوني حماد بن زيد ، وبشر بن المفضل ، ويزيد بن زريع فما نفعه الله بواحد منهم .

            وقال يحيى : كان الشاذكوني يكذب ويضع الحديث وقد جربت عليه الكذب .

            وقال البخاري : هو عندي أضعف من كل ضعيف ، وقال النسائي : ليس بثقة .

            وكان عبدان الأهوازي يقول : لا يتهم شاذكوني بالكذب ، وإنما كتبه كانت قد ذهبت ، فكان يحدث فيغلط . توفي الشاذكوني في جمادى الآخرة من هذه السنة بأصبهان .

            وقال إسماعيل بن طاهر البلخي : رأيت سليمان الشاذكوني في النوم ، فقلت : ما فعل الله بك يا أبا أيوب ؟ فقال : غفر [الله ] لي . قلت : بماذا ؟ قال : كنت في طريق أصبهان [أمر إليها ] فأخذتني مطرة ، وكانت معي كتب ، ولم أكن تحت سقف ولا شيء ، فانكببت على كتبي حتى أصبحت وهدأ المطر ، فغفر لي الله بذلك .

            علي بن بحر بن بري

            علي بن بحر بن بري ، أبو الحسن القطان   . فارسي الأصل .

            سمع هشام بن يوسف ، وجرير بن عبد الحميد .

            روى عنه أحمد بن حنبل ، وقال : هو ثقة . توفي بالبصرة في هذه السنة .

            ودون هذا رجل يقال له : علي بن بري ، وليس فيه : "بحر" .

            حدث ببغداد أيضا عن سلمة بن شبيب ، وروى عنه : أبو بكر الشافعي .

            أبو الحسن السعدي مولاهم ويعرف بابن المديني

            علي بن عبد الله بن جعفر بن يحيى بن بكر بن سعد ، أبو الحسن السعدي مولاهم ، ويعرف بابن المديني   .

            بصري المولد ، كوفي المنشأ ، ولد سنة إحدى وستين ومائة .

            وسمع حماد بن زيد ، وهشام بن بشير ، وسفيان بن عيينة ، وخلقا كثيرا .

            وكان المقدم على حفاظ وقته ، وكان سفيان بن عيينة يقول : والله إني أتعلم من ابن المديني أكثر مما يتعلم مني ، ولولاه ما جلست وكذلك كان يحيى بن سعيد يقول : الناس يلوموني في قعودي مع علي ، وأنا أتعلم من علي أكثر مما يتعلم مني .

            وكان أحمد بن حنبل لا يسميه ، وإنما يكنيه تبجيلا له ، وقال البخاري : ما أستصغر نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني .

            وقال محمد بن يزداد : سمعت أحمد بن يوسف البحيري يقول : سمعت الأعين يقول : رأيت علي بن المديني مستلقيا ، وأحمد بن حنبل عن يمينه ، ويحيى بن معين عن يساره ، وهو يملي عليهما .

            قال عبد الله بن محمد بن سيار : سمعت عباسا العنبري يقول : كان علي بن المديني بلغ ما لو قضي له أن يتم على ذلك ، لعله كان يقدم على الحسن البصري ، كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ، ولباسه ، وكل شيء يقول ويفعل ، أو نحو هذا .

            قال المصنف : والذي منع ابن المديني من التمام إجابته في خلق القرآن وميله إلى ابن أبي دؤاد لأجل حطام الدنيا ، فلم يكفه أن أجاب فكان يعتذر للتقية ، وصار يتردد إلى ابن أبي دؤاد ويظهر له الموافقة .



            وقال : الحسين بن فهم : حدثنا أبي قال : قال ابن أبي دؤاد للمعتصم : يا أمير المؤمنين ، هذا يزعم - يعني أحمد بن حنبل - أن الله تعالى يرى في الآخرة ، والعين لا تقع إلا على محدود ، والله لا يحد . فقال المعتصم : ما عندك في هذا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال : وما قال عليه السلام ؟ عن جرير بن عبد الله البجلي قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة أربع عشرة من الشهر ، فنظر إلى البدر ، فقال : "أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر ، لا تضامون في رؤيته" . فقال لأحمد بن أبي دؤاد : ما عندك في هذا ؟ قال :

            أنظر في إسناد هذا الحديث . وكان هذا في أول يوم ، [ثم انصرف ] ، فوجه ابن أبي دؤاد إلى علي بن المديني ، وهو مملق لا يقدر على درهم ، فأحضره فما كلمه بشيء حتى وصله بعشرة آلاف درهم ، وقال له : هذه وصلك بها أمير المؤمنين ، وأمر أن يدفع إليه جميع ما استحق من أرزاقه ، وكان له رزق سنتين ، ثم قال : يا أبا الحسن حديث جرير بن عبد الله في الرؤية ما هو ؟ قال : صحيح ، قال : فهل عندك فيه شيء ؟ قال :

            يعفيني القاضي من هذا . فقال : يا أبا الحسن هو حاجة الدهر ثم أمر له بثياب وطيب ومركب بسرجه ولجامه ولم يزل به حتى قال له : في هذا الإسناد من لا يعتمد عليه ولا على ما يرويه ، وهو قيس بن أبي حازم ، إنما كان أعرابيا بوالا على قدميه . فقام ابن أبي دؤاد إلى ابن المديني فاعتنقه ، فلما كان من الغد ، وحضروا قال ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، هذا يحتج في الرؤية بحديث جرير ، وإنما رواه عنه قيس بن أبي حازم وهو أعرابي بوال على عقبيه .

            قال أحمد بعد ذلك : فعلمت أنه من عمل ابن المديني .

            وقدم علي بن المديني البصرة ، فصار إليه بندار ، فجعل يقول : قال أبو عبد الله ، فقال له بندار - على رءوس الملأ - من أبو عبد الله أحمد بن حنبل ؟ [قال : لا ، ] أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد .

            قال بندار : عند الله أحتسب خطئي ، شبه علي هذا ، وغضب وقام .

            قال محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي : كان عند إبراهيم الحربي قمطر من حديث علي بن المديني ، وما كان يحدث به ، فقيل له : لم لا تحدث عنه ؟ قال : لقيته يوما وبيده نعله وثيابه في فمه ، فقلت : إلى أين ؟ قال : ألحق الصلاة خلف أبي عبد الله ، فظننت أنه يعني أحمد بن حنبل فقلت : من أبو عبد الله ؟

            قال : أبو عبد الله بن أبي دؤاد ، فقلت : والله لا حدثت عنك بحرف .

            وقال أبو العيناء : دخل علي بن المديني على أحمد بن أبي دؤاد بعد أن جرى من محنة أحمد بن حنبل ما جرى ، فناوله رقعة وقال : هذه طرحت في داري ، [فقرأها ] فإذا فيها :


            يا ابن المديني الذي شرعت له دنيا فجاد بدينه لينالها     ماذا دعاك إلى اعتقاد مقالة
            قد كان عندك كافر من قالها     أمر بدا لك رشده فقبلته
            أم زهرة الدنيا أردت نوالها     فلقد عهدتك لا أبا لك مرة
            صعب المقالة للتي تدعى لها     إن الحريب لمن يصاب بدينه
            لا من يرزئ ناقة وفصالها

            فقال له أحمد : قد هجا خيار الناس ، وقد قمت وقمنا من حق الله تعالى بما يصغر له قدر الدنيا عند كثير ثوابه ، ثم دعا له بخمسة آلاف درهم ، وقال : اصرف هذه في نفقاتك . قال المصنف : وقد روى جماعة عن علي بن المديني أنه قال : إنما أجبت تقية ، وخفت السيف ، وقد حبست في بيت مظلم ثمانية أشهر ، وفي رجلي قيد [فيه ] ثمانية أمنان حتى خفت على بصري .

            توفي ابن المديني بسامراء في ذي القعدة من هذه السنة ، وقيل : في سنة خمس وثلاثين ، ولا يصح .

            أبو زكريا العابد المعروف بالمقابري

            يحيى بن أيوب ، أبو زكريا العابد ، المعروف بالمقابري   .

            ولد سنة سبعة وخمسين ومائة . سمع شريكا ، وإسماعيل بن جعفر ، وابن علية وغيرهم .

            روى عنه : أحمد بن حنبل ، ومسلم بن الحجاج ، والبغوي ، وكان ثقة ورعا من خيار عباد الله .

            وقال العباس بن محمد بن عبد الرحمن الأشهلي : حدثني أبي قال : مررت بالمقابر فسمعت همهمة ، فاتبعت الأثر ، فإذا يحيى بن أيوب في حفرة من تلك الحفر ، وإذا هو يدعو ويبكي ويقول : يا قرة عين المطيعين ! ويا قرة عين العاصين ! ولم لا تكون قرة عين المطيعين وأنت مننت عليهم بالطاعة ، ولم لا تكون قرة عين العاصين وأنت سترت عليهم الذنوب . قال : ويعاود البكاء ، قال : فغلبني البكاء ، ففطن بي ، فقال لي :

            تعال لعل الله تعالى إنما بعث بك الخير .

            توفي يحيى في ربيع الأول من هذه السنة . وفيها توفي إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ، وفيها توفي من الأعيان   :

            عبد الله بن محمد النفيلي ، وأبو ربيع الزهراني ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، ومحمد بن أبي بكر المقدمي ، والمعافى الرسعني ، ويحيى بن يحيى الليثي راوي الموطأ للمغاربة عن مالك بن أنس .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية