الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر  

            إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان

            إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان ، أبو ثور الكلبي الفقيه الشافعي   .

            سمع سفيان بن عيينة ، وإسماعيل بن علية ، ووكيعا ، وأبا معاوية ، ويزيد بن هارون ، والشافعي ، وغيرهم .

            روى عنه : أبو داود السجستاني ، ومسلم بن الحجاج ، وغيرهما .

            وكان يميل إلى الرأي ، فلما قدم الشافعي بغداد اختلف إليه ، وترك قول أهل الرأي .

            وكان من الفقهاء الأخيار ، والثقات الأعلام ، وصنف كتبا في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه .

            وكان أحمد بن حنبل يثني عليه ويقول : أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة ، وسئل عن مسألة فقال : سل الفقهاء ، سل أبا ثور .

            وقال أبو عمرو أحمد بن محمد بن سهيل : وحدثني رجل ذكره من أهل العلم - قال ابن خلاد : وأنسيت أنا اسمه - قال :

            وقفت امرأة على مجلس فيه يحيى بن معين ، وأبو خيثمة ، وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث ، فسمعتهم يقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ورواه [فلان ] ، وحدث به فلان ، فسألتهم عن الحائض تغسل الموتى . فلم يجبها أحد منهم - وكانت غاسلة - وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ، فأقبل أبو ثور فقالوا لها : عليك بالمقبل ، فسألته فقال : نعم تغسل الموتى ، لحديث القاسم عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها : "أما إن حيضتك ليست في يدك" . ولقولها : كنت أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالماء وأنا حائض .

            قال أبو ثور : فإذا فرقت رأس الحي فالميت أولى به .

            فقالوا : نعم رواه فلان ، وحدثنا به فلان ، ونعرفه من طريق كذا ، وخاضوا في الطرق والروايات . فقالت المرأة : فأين كنتم إلى الآن .

            وقال المزني : قال لي الشافعي : رأيت ببغداد ثلاث أعجوبات ! قلت : ما هن ؟ قال : رأيت نبطيا ينحو حتى كأني أنا نبطي وهو غلامي ، ورأيت أعرابيا قحا يلحن حتى كأنه نبطي وهو غلامي . قلت : من الأول ؟

            قال : الزعفراني ، [وهو غلامي ] . قلت . فمن العربي القح ؟ قال : أبو ثور [وهو غلامي ] .

            قلت : فالأخرى ؟ قال : رأيت ببغداد شابا أسود الرأس واللحية إذا قال حدثنا قال الناس كلهم : صدق ، قلت : من هو ؟ قال : أحمد بن حنبل .

            توفي أبو ثور في صفر هذه السنة ببغداد ، ودفن في مقبرة باب الكنائس .

            قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قال لي أبي : أين كنت ؟ قلت : في جنازة أبي ثور ، فقال : رحمه الله إنه كان فقيها .

            أحمد بن الخضر

            أحمد بن الخضر ، وهو المعروف بابن خضرويه البلخي ، يكنى أبا حامد   .

            صحب أبا تراب [النخشبي ] وحاتما ، ورحل إلى أبي يزيد ، وأبي حفص .

            يقول منصور بن عبد الله : سمعت محمد بن حامد الترمذي يقول : قال رجل لأحمد بن خضرويه : أوصني فقال : أمت نفسك حتى تحييها ، وقال : لا نوم أثقل من الغفلة ، ولا رق أملك من الشهوة ، ولولا ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة .

            ويقول محمد بن حامد : كنت جالسا عند أحمد بن خضرويه وهو في النزع ، وكان قد أتى عليه خمس وتسعون سنة فسئل عن مسألة ، فدمعت عيناه وقال : يا بني ، باب كنت أدقه خمسا وتسعين سنة هو ذا يفتح لي الساعة ، لا أدري أيفتح لي بالسعادة أو بالشقاوة ، آن لي أوان الجواب . وكان ركبه من الدين سبعمائة دينار ، وحضره غرماؤه فنظر إليهم وقال : اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم ، فأد عني . قال : فدق داق الباب ، وقال : هذه دار أحمد بن خضرويه ؟ فقالوا : نعم . قال :

            أين غرماؤه ؟ قال : فخرجوا فقضى عنه ، ثم خرجت روحه .

            أسند ابن خضرويه الحديث ، وتوفي هذه السنة .

            إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة

            إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة ، أبو أحمد مولى عثمان بن عفان  

            وهو من أهل حران .

            حدث عن يزيد بن هارون وغيره ، وكان ثقة ، توفي بالعراق في هذه السنة .

            الحسن بن عيسى بن ما سرجس

            الحسن بن عيسى بن ما سرجس ، أبو علي النيسابوري   .

            كان نصرانيا من أهل بيت الثروة ، فأسلم على يد ابن المبارك .

            قال أبا علي الحسين بن محمد بن أحمد بن الحسين الماسرجسي يحكي عن جده وغيره من أهل بيته قال : كان الحسن والحسين ابنا عيسى بن ماسرجس يركبان معا ، فيتحير الناس في حسنهما وبزتهما ، فاتفقا على أن يسلما فقصدا حفص بن عبد الرحمن ليسلما على يده ، فقال لهما حفص : أنتما من أجل النصارى ، وعبد الله بن المبارك خارج في هذه السنة إلى الحج ، فإذا أسلمتما على يده كان ذلك أعظم عند المسلمين وأرفع لكما في عزكما وجاهكما ، فإنه شيخ أهل المشرق والمغرب ، فانصرفا عنه فمرض الحسين بن عيسى ، فمات على نصرانيته قبل قدوم ابن المبارك ، فلما قدم أسلم الحسن على يده .

            ولما أسلم الحسن سمع من ابن المبارك ورحل في طلب العلم ، وقدم بغداد حاجا ، فحدث بها ، فسمع منه أحمد بن حنبل ، والبخاري ، ومسلم ، وابن أبي الدنيا ، وعد في مجلسه بباب الطاق اثنتا عشرة ألف محبرة .

            وكان ثقة دينا ورعا ، ولم يزل بنيسابور في عقبه فقهاء ومحدثون .

            وتوفي في منصرفه من مكة بالثعلبية في هذه السنة ، وكان قبره ظاهرا بها وعليه مكتوب ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله هذا قبر الحسن بن عيسى ، وكان أنفق في تلك الحجة ثلاثمائة ألف درهم .

            قال محمد بن نعيم [الضبي ] : سمعت محمد بن الحسن بن المؤمل بن عيسى - ونحن في البادية عند منصرفنا من زيارة قبر الحسن [بن عيسى ] - قال : سمعت أبا يحيى البزاز يقول : كنت فيمن حج مع الحسن بن عيسى وقت وفاته بالثعلبية ، ودفن بها ، فاشتغلت بحفظ محملي وآلاتي عن حضور جنازته والصلاة عليه ، لغيبة عديلي عني ، فحرمت الصلاة عليه ، فأريته بعد ذلك في منامي فقلت له : يا أبا علي ، ما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي ربي ، قلت :

            غفر لك ربك ؟ كالمستخبر . قال : نعم ، غفر لي ربي ولكل من صلى علي . قلت :

            فإني فاتتني الصلاة عليك لغيبة العديل عن الرحل . فقال : لا تجزع فقد غفر لي [ولمن صلى علي ] ولكل من ترحم علي .

            سويد بن سعيد بن سهل بن شهريار

            سويد بن سعيد بن سهل بن شهريار ، أبو محمد الهروي   .

            سكن الحديثة على فراسخ من الأنبار ، وقدم بغداد وحدث بها ، عن مالك ، وشريك ، وإبراهيم بن سعد ، وسفيان بن عيينة ، [وروى عنه الباغندي ] والبغوي ، وكان قد كف بصره في آخر عمره .

            قال أحمد : أرجو أن يكون صدوقا أو لا بأس به .

            وقال يحيى : ما حدثك به فاكتب عنه ، وما حدث به تلقينا فلا .

            توفي بالحديثة في شوال هذه السنة ، وكان قد بلغ مائة سنة .

            عبد الواحد بن غياث

            عبد الواحد بن غياث ، أبو محمد البصري   .

            سمع الحمادين . روى عنه : البغوي ، وكان ثقة . توفي بالبصرة .

            قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف

            قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف ، أبو رجاء الثقفي مولاهم   .

            من أهل بغلان وهي قرية من قرى بلخ .

            ولد سنة خمسين ومائة . قال أبوه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام بيده صحيفة ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الصحيفة ؟ قال : "فيها أسماء العلماء" ، قلت : ناولني أنظر فيها اسم ابني ، فنظرت فإذا فيها اسمه .

            [قال المصنف : ] وقتيبة لقب غلب عليه ، وفي اسمه قولان ، أحدهما : يحيى . قاله أبو أحمد بن عدي الجرجاني . والثاني : علي . قاله [أبو ] عبد الله بن منده .

            رحل قتيبة إلى العراق ، ومكة ، والمدينة ، والشام ، ومصر .

            وسمع من مالك ، والليث ، وابن لهيعة ، وحماد بن زيد ، وغيرهم .

            روى عنه الأئمة : أحمد ، ويحيى ، وأبو خيثمة ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو زرعة ، والبخاري ، ومسلم بن الحجاج ، وكان ثقة مأمونا كثير الحديث .

            يقول عصام بن العلاء : سمعت قتيبة [بن سعيد ] يقول :


            لولا القضاء الذي لا بد مدركه فالرزق يأكله الإنسان بالقدر     ما كان مثلي في بغلان مسكنه
            ولا يمر بها إلا على سفر

            [توفي بها في هذه السنة ] .

            محمد بن أبي عتاب

            محمد بن أبي عتاب ، أبو بكر الأعين   .

            واسم أبي عتاب : الحسن . كذا قال مسلم وابن أبي حاتم .

            وقال البغوي : اسم أبي [عتاب ] : طريف ، وكذا قال محمد بن عبد الله الحضرمي ، ومحمد بن إسحاق السراج .

            حدث أبو بكر عن : روح بن عبادة ، ووهب بن جرير ، وأسود بن عامر ، وغيرهم .

            روى عنه : عباس الدوري ، وكان ثقة .

            وقال يحيى بن معين : ليس هو من أصحاب الحديث - وإنما أعني أنه ليس من الحفاظ بعلل الحديث والنقاد لطرقه - وأما الضبط والصدق فليس بمدفوع عنه .

            وتوفي ببغداد يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت [من جمادى الآخرة ] من هذه السنة .

            محمد بن الصباح بن سفيان

            محمد بن الصباح بن سفيان ، أبو جعفر الجرجرائي   .

            حدث عن سفيان بن عيينة ، وهشيم بن بشير وغيرهما .

            قال يحيى بن معين : ليس به بأس . وقال ابن عقدة : هو ثقة . قال البغوي : توفي بجرجرايا في هذه السنة . أحمد بن أبي دؤاد بن جرير

            قال ابن جرير : وفي المحرم منها توفي أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه بعشرين يوما .

            وهذه ترجمة أحمد بن أبي دؤاد القاضي

             هو أحمد بن أبي دؤاد واسمه الفرج ، وقيل : دعمي . والصحيح أن اسمه كنيته - ابن جرير القاضي ، أبو عبد الله الإيادي المعتزلي .

            قال ابن خلكان في نسبه : هو أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد بن سلام بن عبد هند بن عبد لخم بن مالك بن قنص بن منعة بن برجان بن دوس بن الدئل بن أمية بن حذاقة بن زهر بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان .

            قال الخطيب : ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم ، ثم للواثق ، وكان موصوفا بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الأدب ، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية ، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن ، قال الصولي : لم يكن بعد البرامكة أكرم منه ، ولولا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الألسن . قالوا : وكان مولده في سنة ستين ومائة ، وكان أسن من يحيى بن أكثم بعشرين سنة .

            قال ابن خلكان وأصله من بلاد قنسرين وكان أبوه تاجرا يفد إلى الشام ثم أخذ ولده هذا معه إلى العراق ، فاشتغل بالعلم ، وصحب هياج بن العلاء السلمي ، أحد أصحاب واصل بن عطاء فأخذ عنه الاعتزال ، وذكر أنه كان يصحب يحيى بن أكثم القاضي ، ويأخذ عنه العلم ثم سرد له ترجمة طويلة في كتاب " الوفيات " .

            وقد امتدحه بعض الشعراء ، فقال :


            رسول الله والخلفاء منا     ومنا أحمد بن أبي دؤاد

            فرد عليه بعض الشعراء فقال :


            فقل للفاخرين على نزار     وهم في الأرض سادات العباد
            رسول الله والخلفاء منا     ونبرأ من دعي بني إياد
            وما منا إياد إذ أقرت     بدعوة أحمد بن أبي دؤاد

            فلما بلغ ذلك أحمد بن أبي دؤاد قال : لولا أني أكره العقوبة لعاقبت هذا الشاعر عقوبة ما فعلها أحد . وعفا عنه .

            قال الخطيب : بسنده قال جرير بن أحمد أبو مالك ، : كان أبي - يعني أحمد بن أبي دؤاد - إذا صلى رفع يديه إلى السماء ، وخاطب ربه ، وأنشأ يقول :


            ما أنت بالسبب الضعيف وإنما     نجح الأمور بقوة الأسباب
            واليوم حاجتنا إليك وإنما     يدعى الطبيب لساعة الأوصاب

            ثم روى الخطيب أن أبا تمام دخل على أحمد بن أبي دؤاد يوما فقال له : أحسبك عاتبا . فقال : إنما يعتب على واحد ، وأنت الناس جميعا . فقال له : أنى لك هذه ؟ فقال : من قول أبي نواس :


            وليس لله بمستنكر     أن يجمع العالم في واحد

            وامتدحه أبو تمام يوما ، فقال :


            لقد أنست مساوئ كل دهر     محاسن أحمد بن أبي دؤاد
            وما سافرت في الآفاق إلا     ومن جدواك راحلتي وزادي
            يقيم الظن عندك والأماني     وإن قلقت ركابي في البلاد

            فقال له : هذا المعنى تفردت به ، أو أخذته من غيرك ؟ فقال : هو لي غير أني ألممت بقول أبي نواس :


            وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة     لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني

            وقال محمد بن يحيى الصولي : ومن مختار مديح أبي تمام لأحمد بن أبي دؤاد قوله :


            أأحمد إن الحاسدين كثير     وما لك إن عد الكرام نظير
            حللت محلا فاضلا متقدما     من المجد والفخر القديم فخور
            فكل غني أو فقير فإنه     إليك وإن نال السماء فقير
            إليك تناهى المجد من كل وجهة     يصير فما يعدوك حيث تصير
            وبدر إياد أنت لا ينكرونه     كذاك إياد للأنام بدور
            تجنبت أن تدعى الأمير تواضعا     وأنت لمن يدعى الأمير أمير
            فما من ندى إلا إليك محله     ولا رفعة إلا إليك تسير

            قلت : قد أخطأ الشاعر في هذا خطأ كبيرا ، وأفحش في المبالغة كثيرا . وقال أحمد بن أبي دؤاد يوما لبعضهم : لم لا تسألني ؟ فقال له : لأني لو سألتك أعطيتك ثمن ما تعطيني . فقال له : صدقت . وأرسل إليه بخمسة آلاف درهم .

            وقال ابن الأعرابي : سأل رجل ابن أبي دؤاد أن يحمله على عير ، فقال : يا غلام ، أعطه عيرا وبغلا وبرذونا وفرسا وجارية . ثم قال له : لو أعلم مركوبا غير هذا لأعطيتك . ثم أورد الخطيب بأسانيده عن جماعة من الناس أخبارا تدل على كرمه وفصاحته وأدبه وحلمه ومبادرته إلى قضاء الحاجات ، وعظيم منزلته عند الخلفاء .

            وذكر عن محمد المهتدي ابن الواثق أن شيخا دخل يوما على الواثق فسلم فلم يرد عليه الواثق ، بل قال : لا سلم الله عليك . فقال : يا أمير المؤمنين ، بئس ما أدبك معلمك ; قال الله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها [ النساء : 86 ] فلا حييتني بأحسن منها ، ولا رددتها . فقال ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، الرجل متكلم . فقال : ناظره . فقال ابن أبي دؤاد : ما تقول يا شيخ في القرآن ، أمخلوق هو ؟ فقال الشيخ : لم تنصفني ; المسألة لي . فقال : قل . فقال : هذا الذي تقوله ، علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي أو ما علموه ؟ فقال : لم يعلموه . قال : فأنت علمت ما لم يعلموا ؟ فخجل وسكت . ثم قال : أقلني ، بل علموه . قال : فلم لا دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت ، أما وسعك ما وسعهم ؟ فسكت ابن أبي دؤاد ، وأمر الواثق له بجائزة نحو أربعمائة دينار . قال المهتدي : فدخل أبي المنزل واستلقى على قفاه ، وجعل يكرر قول الشيخ على نفسه ، ويقول : أما وسعك ما وسعهم ؟ ثم أمر بإطلاق الشيخ وإعطائه أربعمائة دينار ورده إلى بلاده ، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعده أحدا . رواها الخطيب البغدادي في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا أعرفه ، وساقها مطولة وفيها نكارة .

            وقد أنشد ثعلب عن أبي حجاج الأعرابي أنه قال في ابن أبي دؤاد :


            نكست الدين يا ابن أبي دؤاد     فأصبح من أطاعك في ارتداد
            زعمت كلام ربك كان خلقا     أما لك عند ربك من معاد
            كلام الله أنزله بعلم     وأنزله على خير العباد
            ومن أمسى ببابك مستضيفا     كمن حل الفلاة بغير زاد
            لقد أطرفت يا ابن أبي دؤاد     بقولك إنني رجل إيادي

            ثم قال الخطيب : بسنده عن محمد بن يحيى الصولي لبعضهم يهجو ابن أبي دؤاد :


            لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد     وكان عزمك عزما فيه توفيق
            لكان في الفقه شغل لو قنعت به     عن أن تقول كتاب الله مخلوق
            ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم     ما كان في الفرع لا في الجهل والموق

            وقد تقدمت هذه الأبيات .

            وروى الخطيب عن يحيى الجلاء أو علي ابن الموفق أنه قال : ناظرني رجل من الواقفية في خلق القرآن فنالني منه ما أكره ، فلما أمسيت أتيت امرأتي فوضعت لي العشاء فلم أقدر أن أنال منه شيئا ، ونمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الجامع ، وهناك حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه ، وحلقة فيها ابن أبي دؤاد وأصحابه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية فإن يكفر بها هؤلاء [ الأنعام : 89 ] ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ الأنعام : 89 ] ويشير إلى حلقة أحمد بن حنبل وأصحابه رحمهم الله .

            وقال بعضهم : رأيت في المنام ليلة مات ابن أبي دؤاد كأن قائلا يقول : هلك الليلة أحمد بن أبي دؤاد . فقلت له : وما سبب هلاكه ؟ فقال : إنه أغضب الله عليه فغضب عليه من فوق سبع سماوات ، وقال بعضهم : رأيت في تلك الليلة كأن النار زفرت زفرة عظيمة ، فخرج منها اللهب ، فقلت : ما هذا ؟ فقيل : هذه اتخذت لابن أبي دؤاد

            وقد كان موته في يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة وصلى عليه ابنه العباس ، ودفن في داره ببغداد وعمره يومئذ ثمانون سنة ، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين وبقي طريحا في فراشه لا يقدر على أن يحرك شيئا من جسده .

            وقد دخل عليه بعضهم فقال : والله ما جئتك عائدا وإنما جئت لأحمد الله على أن سجنك في جسدك . وقد صودر في العام الماضي بأموال جزيلة جدا ، كما تقدم بيانه .

            قال ابن خلكان كان مولده في سنة ستين ومائة . قلت : فعلى هذا يكون أسن من أحمد بن حنبل ، ومن يحيى بن أكثم الذي ذكر ابن خلكان أنه كان سبب اتصال ابن أبي دؤاد بالخليفة المأمون فحظي عنده ، بحيث إنه أوصى به إلى أخيه المعتصم ، فولاه المعتصم القضاء وعزل ابن أكثم ، وكان لا يقطع أمرا دونه ، فكان عنده خصيصا ; ولاه القضاء والمظالم ، وكان ابن الزيات الوزير يبغضه ، وجرت بينهما منافسات وهجو ، كما تقدم وقد بالغ ابن خلكان في ترجمته ومدحه ، وذكر من مآثره ومحاسنه فأطنب وأكثر وما أطيب ، ولم يذكر شيئا من مساوئه ، بل ذكر امتحانه للإمام أحمد بن حنبل ذكرا موجزا بأطراف الأنامل ، وهي المحنة التي هي أس ما بعدها من المحن ، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن .

            ثم ذكر ابن خلكان ما ضرب به من الفالج ، وما صودر به من المال الرابح ، وأن ابنه أبا الوليد محمدا صودر بألف ألف دينار ، وأنه مات قبل أبيه بشهر .

            وأما الحافظ ابن عساكر فإنه بسط القول في ترجمته وشرحها شرحا مليحا . وقد كان الرجل أديبا فصيحا كريما جوادا ممدحا ، يؤثر العطاء على المنع ، والتفرقة على الجمع ، وقد روى ابن عساكر بإسناده أنه جلس يوما مع أصحابه ينتظرون خروج الواثق ، فقال ابن أبي دؤاد : إنه ليعجبني هذان البيتان :


            ولي نظرة لو كان يحبل ناظر     بنظرته أنثى لقد حبلت مني
            فإن ولدت ما بين تسعة أشهر     إلى نظرتي ابنا فإن ابنها مني

            التالي السابق


            الخدمات العلمية