وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة وولي بعده المهتدي بالله ، ، ثم سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام حتى جعل يطلب شربة من ماء البئر فلم يسق ثم أدخلوه سربا فيه جص جير فدسوه فيه فأصبح ميتا فاستلوه من الجص سليم الجسد فأشهدوا عليه جماعة من الأعيان أنه مات وليس به أثر ، وكان ذلك في اليوم الثاني من شعبان من هذه السنة وكان يوم السبت وصلى عليه المهتدي بالله ودفن مع أخيه المنتصر إلى جانب قصر الصوامع ، عن أربع وعشرين سنة .
وكانت خلافته أربع س?ين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان طويلا جسيما وسيما أقنى الأنف مدور الوجه حسن الضحك أبيض ، أسود الشعر جعده كثيفه كثيف اللحية حسن العينين والوجه ضيق الجبين أحمر الوجنتين رحمه الله .
كان فصيحا ، فمن كلامه لما سار المستعين إلى بغداذ ، وقد أحضر جماعة للرأي ، فقال لهم : أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقها ؟
الهمج ، العصاة ، الأوغاد الذين لا مسكة بهم ، ولا اختيار لهم ، ولا تمييز معهم ، قد زين لهم تقحم الخطأ سوء أعمالهم ، فهم الأقلون وإن كثروا ، والمذمون إذا ذكروا ، وقد علمت أنه لا يصلح لقواد الجيوش ، وسد الثغور ، وإبرام الأمور ، وتدبير الأقاليم إلا رجل قد تكاملت فيه خصال أربع : حزم يتقي به عند موارد الأمور حقائق مصادرها ، وعلم يحجزه عن التهور ، والتغرير في الأشياء إلا مع إمكان فرصتها ، وشجاعة لا تفضها الملمات مع تواتر حوائجها ، وجود يهون تبذير الأموال عند سؤالها ، وسرعة مكافأة الإحسان إلى صالح الأعوان ، وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان ، والاستعداد للحوادث إذ لا تؤمن حوادث الزمان .
وأما الاثنتان فإسقاط الحجاب عن الرعية ، والحكم بين القوي والضعيف بالسوية .
وأما الواحدة فالتيقظ للأمور ، وقد اخترت لهم رجلا من موالي أحدهم شديد الشكيمة ، ماضي العزيمة ، لا تبطره السراء ، ولا تدهشه الضراء ، ولا يهاب ما وراءه ، ولا يهوله ما يلقاه ، فهو كالحريش في أصل الإسلام إن حرك حمل ، وإن نهش قتل ، عدته عتيدة ، ونعمته شديدة ، يلقى الجيش في النفر القليل العديد ، بقلب أشد من الحديد ، طالب للثأر لا تفله العساكر ، باسل البأس ، ومقتضب الأنفاس ، لا يعوزه ما طلب ، ولا يفوته من هرب ، واري الزناد مضطلع العماد ، لا تشرهه الرغائب ، ولا تعجزه النوائب ، وإن ولي كفى ، وإن قال وفى ; وإن نازل فبطل ، وإن قال فعل ; ظله لوليه ظليل ، وبأسه في الهياج عليه دليل ، يفوق من ساماه ، ويعجزه من ناواه ، ويتعب من جاراه ، وينعش من والاه . وقد أثنى الإمام أحمد بن حنبل على جودة ذهنه وحسن فهمه وأدبه حين دخل عليه في حياة أبيه المتوكل بسامرا ،
وروى الخطيب البغدادي عن علي بن حرب قال : دخلت على المعتز بالله فما رأيت خليفة أحسن وجها منه ، فلما رأيته سجدت فقال : يا شيخ تسجد لأحد من دون الله ؟ فقلت : حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل ، ثنا بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن جده . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يفرح به ، أو بشر بما يسره ، سجد شكرا لله عز وجل
وقال الزبير بن بكار : صرت إلى المعتز وهو أمير ، فلما سمع بقدومي خرج مستعجلا إلي فعثر ، فأنشأ يقول :
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل فعثرته من فيه ترمي برأسه
وعثرته في الرجل تبرأ على مهل