الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة

            ذكر الصلح بين سلطان الدولة ومشرف الدولة  

            في هذه السنة اصطلح سلطان الدولة وأخوه مشرف الدولة وحلف كل واحد منهما لصاحبه ، وكان الصلح بسعي من أبي محمد بن مكرم ، ومؤيد الملك الرخجي وزير مشرف الدولة ، على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة ، وفارس وكرمان لسلطان الدولة . ذكر قتل المعز وزيره وصاحب جيشه  

            في هذه السنة قتل المعز بن باديس ، صاحب إفريقية ، وزيره وصاحب جيشه أبا عبد الله محمد بن الحسن .

            وسبب ذلك أنه أقام سبع سنين لم يحمل إلى المعز من الأموال شيئا بل يجبيها ويرفعها عنده ، وطمع طمعا عظيما ، لا يصبر على مثله ، بكثرة أتباعه ، ولأن أخاه عبد الله بطرابلس الغرب مجاور لزناتة ، وهم أعداء دولته ، فصار المعز لا يكاتب ملكا ، ولا يراسله ، إلا ويكتب أبو عبد الله معه عن نفسه ، فعظم ذلك على المعز وقتله .

            يحكى عن أبي عبد الله أنه قال : سهرت ليلة أفكر في شيء أحدثه في الناس وأخرجه عليهم من الخدم التي التزمتها ، فنمت فرأيت عبد الله بن محمد الكاتب ، وكان وزيرا لباديس ، والد هذا المعز ، وكان عظيم القدر والمحل ، وهو يقول لي : اتق الله ، أبا عبد الله ، في الناس كافة ، وفي نفسك خاصة ، فقد أسهرت عينيك ، وأبرمت حافظيك ، وقد بدا لي منك ما خفي عليك ، وعن قليل ترد على ما وردنا ، وتقدم على ما قدمنا . فاكتب عني ما أقول فإني لا أقول إلا حقا . فأملى علي ( هذه الأبيات ) :


            وليت ، وقد رأيت مصير قوم هم كانوا السماء وكنت أرضا     سموا درج العلى حتى اطمأنوا
            وهد بهم ، فعاد الرفع خفضا     وأعظم أسوة لك بي لأني
            ملكت ولم أعش طولا وعرضا     فلا تغتر بالدنيا وأقصر
            فإن أوان أمرك قد تقضى



            قال : فانتبهت مرعوبا ، ورسخت الأبيات في حفظي ، فلم يبق بعد هذا المنام غير شهرين حتى قتل .

            ولما وصل خبر قتله إلى أخيه عبد الله بطرابلس بعث إلى زناتة فعاهدهم ، وأدخلهم مدينة طرابلس ، فقتلوا من كان فيها من صنهاجة وسائر الجيش ، وأخذوا المدينة . فلما سمع المعز ذلك أخذ أولاد عبد الله ونفرا من أهلهم فحبسهم ، ثم قتلهم بعد أيام ، لأن نساء المقتولين بطرابلس استغثن إلى المعز في قتلهم فقتلهم . ذكر عدة حوادث

            وفيها كان بإفريقية غلاء شديد ، ومجاعة عظيمة لم يكن مثلها في تعذر الأقوات  ، إلا أنه لم يمت فيها أحد بسبب الجوع ، ولم يجد الناس كبير مشقة .

            وفيها ، في شهر رمضان استوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخجي ولقب مؤيد الملك ، وامتدحه مهيار وغيره من الشعراء وبنى مارستانا بواسط ، وأكثر فيه من الأدوية والأشربة ، ورتب له الخزان والأطباء ، ووقف عليه الوقوف الكثيرة ، وكان يعرض عليه الوزارة فيأباها ، فلما قتل أبو غالب ألزمه بها مشرف الدولة فلم يقدر على الامتناع . عمد بعض الحاج المصريين إلى الحجر الأسود فضربه بدبوس  

            وفي هذه السنة : في زمن الحج عمد بعض الحاج المصريين إلى الحجر الأسود فضربه بدبوس كان في يده حتى شعثه وكسر قطعا منه ، وعاجله الناس فقتلوه وثار المكيون بالمصريين ونهبوهم وقتلوا قوما منهم ، وركب أبو الفتوح الحسن بن جعفر فأطفأ الفتنة ، ودفع عن المصريين .

            قال هلال بن المحسن : وقيل : إن الفاعل ما فعله إلا وهو من الجهلة الذين كان الحاكم استغواهم وأفسد أديانهم . وقيل : كان ذلك في سنة أربع عشرة ، قال :

            وقرأت في كتاب كتب بمصر في هذا المعنى : كان من جملة من دعاه الخوف إلى الانتزاح رجل من أهل البصرة أهوج أثول سار مع الحجيج إلى مكة فرقا من السيف وتستر بالحج ، فلما وصل أعلن الكفر وأظهر ما كان يخفيه من الكفر فقصد الحجر الأسود ، فضربه بدبوس في يده أطارت شظايا منه ، ووصلت بعد ذلك ، ثم إن هذا الكافر عوجل بالقتل .

            قال أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي : في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة كسر الحجر الأسود لما صليت الجمعة يوم النفر الأول ، ولم يكن رجع الناس بعد من منى ، قام رجل ممن ورد من ناحية مصر بإحدى يديه سيف مسلول ، وبالأخرى دبوس بعد ما قضى الإمام الصلاة ، فقصد ذلك الرجل ليستلمه على الرسم ، فضرب وجه الحجر ثلاث ضربات متوالية بالدبوس ، وقال : إلى متى يعبد الحجر ولا محمد ولا علي يمنعني عما أفعله ، فإني أهدم هذا البيت وأرفعه فاتقاه أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه ، وكاد يفلت ، وكان رجلا تام القامة ، أحمر اللون ، أشقر الشعر ، سمين الجسم ، وكان على باب المسجد عشرة من الفرسان على أن ينصروه ، فاحتسب رجل من أهل اليمن أو من أهل مكة أو من غيرها فوجأه بخنجر ، واحتوشه الناس فقتلوه وقطعوه وأحرقوه بالنار ، وقتل من اتهم بمصاحبته ومعونته على ذلك المنكر جماعة ، وأحرقوا بالنار وثارت الفتنة ، وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين نفسا غير ما اختفى منهم ، وألحوا في ذلك اليوم على المغاربة والمصريين بالنهب والسلب وعلى غيرهم في طريق منى إلى البلد .

            وفي يوم النفر الثاني اضطرب الناس وماجوا ، وقالوا إنه قد أخذ في أصحاب الخبيث لعنه الله أربعة أنفس اعترفوا بأنهم مائة بايعوا على ذلك ، وضربت أعناق هؤلاء الأربعة وتقشر بعض وجه الحجر في وسطه من تلك الضربات وتخشن ، وزعم بعض الحاج أنه سقط من الحجر ثلاث قطع واحدة فوق أخرى ، فكأنه يثقب ثلاث ثقب ما يدخل الأنملة في كل ثقبة ، وتساقطت منه شظايا مثل الأظفار ، وطارت منه شقوق يمينا وشمالا ، وخرج مكسره أحمر يضرب إلى الصفرة محببا مثل الخشخاش ، فأقام الحجر على ذلك يومين ، ثم أن بني شيبة جمعوا ما وجدوه مما سقط منه ، وعجنوه بالمسك واللك ، وحشوا تلك المواضع وطلوها بطلاء من ذلك ، فهو بين لمن تأمله ، وهو على حاله اليوم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية