الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            مقتل نظام الملك  

            في سنة خمس وثمانين وأربعمائة ، عاشر رمضان ، قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند ، وكان هو والسلطان في أصبهان ، وقد عاد إلى بغداذ ، فلما كان بهذا المكان ، بعد أن فرغ من إفطاره ، وخرج في محفته إلى خيمة حرمه ، أتاه صبي ديلمي من الباطنية ، في صورة مستميح ، أو مستغيث فضربه بسكين كانت معه ، فقضى عليه ، وهرب ، فعثر بطنب خيمة ، فأدركوه فقتلوه ، وركب السلطان إلى خيمه ، فسكن عسكره ، وأصحابه .

            وبقي وزير السلطان ثلاثين سنة سوى ما وزر للسلطان ألب أرسلان ، صاحب خراسان ، أيام عمه طغرلبك ، قبل أن يتولى السلطنة ، وكان علت سنه ، فإنه كان مولده سنة ثمان وأربعمائة .

            وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده نظام الملك رئاسة مرو ، وأرسل السلطان إليها شحنة يقال له قودن ، وهو من أكبر مماليكه ، ومن أعظم الأمراء في دولته ، فجرى بينه ، وبين عثمان منازعة في شيء ، فحملت عثمان حداثة سنه ، وتمكنه ، وطمعه بجده ، على أن قبض عليه ، وأخرق به ، ثم أطلقه ، فقصد السلطان مستغيثا شاكيا ، فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة ( مع تاج الدولة ) ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته يقول له : إن كنت شريكي في الملك ، ويدك مع يدي في السلطنة ، فلذلك حكم ، وإن كنت نائبي ، وبحكمي ، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة ، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة ، وولي ولاية كبيرة ، ولم يقنعهم ذلك ، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا ، وأطال القول ، وأرسل معهم الأمير يلبرد ، وكان من خواصه وثقاته ، وقال له : تعرفني ما يقول ، فربما كتم هؤلاء شيئا .

            فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة ، فقال لهم : قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم ، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي ، أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره ، وقمعت الخوارج عليه من أهله ، وغيرهم ، منهم : فلان وفلان ، وذكر جماعة من خرج عليه ، وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني ، ولا يخالفني ، فلما قدت الأمور إليه ، وجمعت الكلمة عليه ، وفتحت له الأمصار القريبة ، والبعيدة ، وأطاعه القاصي ، والداني ، أقبل يتجنى لي الذنوب ، ويسمع في السعايات ؟ قولوا له عني : إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة ، وإن اتفاقهما رباط كل رغيبة وسبب كل غنيمة ، ومتى أطبقت هذه زالت تلك ، فإن عزم على تغيير فليتزود للاحتياط قبل وقوعه ، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه ، وأطال فيما هذا سبيله ، ثم قال لهم : قولوا للسلطان عني مهما أردتم ، فقد أهمني ما لحقني من توبيخه ، وفت في عضدي .

            فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان ، وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصل ، ومضوا إلى منازلهم ، وكان الليل قد انتصف ، ومضى يلبرد إلى السلطان فأعلمه ما جرى ، وبكر الجماعة إلى السلطان ، وهو ينتظرهم ، فقالوا له من الاعتذار والعبودية ما كانوا اتفقوا عليه ، فقال لهم السلطان : إنه لم يقل هذا ، وإنما قال كيت ، وكيت ، فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحق نظام الملك ، وسابقته ، فوقع التدبير عليه ، حتى تم عليه من القتل ما تم .

            ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوما ، وانحلت الدولة ، ووقع السيف ، وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له ، وأكثر الشعراء مراثيه ، فمن جيد ما قيل فيه قول شبل الدولة مقاتل بن عطية :


            كان الوزير نظام الملك لؤلؤة يتيمة صاغها الرحمن من شرف     عزت فلم تعرف الأيام قيمتها
            فردها غيرة منه إلى الصدف



            ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام ، فسأله عن حاله ، فقال : كان يعرض علي جميع عملي لولا الحديدة التي أصبت بها ، يعني : القتل . ترجمة نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس ، أبو علي الطوسي ، الملقب: نظام الملك  وزير السلطانين ألب أرسلان وولده ملك شاه نسقا متتاليا تسعا وعشرين سنة .

            ولد بطوس ، وكان من أولاد الدهاقين وأرباب الضياع بناحية بيهق ، كان عالي الهمة إلا أنه كان فقيرا مشغولا بالفقه والحديث ، ثم اتصل بخدمة أبي علي بن شاذان المعتمد عليه ببلخ ، فكان يكتب له ، وكان يصادره كل سنة ، فهرب منه فقصد داود بن ميكائيل والد السلطان ألب أرسلان ، وعرفه رغبته في خدمته ، فلما دخل عليه أخذ بيده فسلمه إلى ولده ألب أرسلان ، وقال: هذا حسن الطوسي ، فتسلمه واتخذه والدا لا تخالفه ، وقيل: بل خدم ابن شاذان إلى أن توفي فأوصى به إلى ألب أرسلان فلما صار الملك إلى ألب أرسلان دبر له الملك فأحسن التدبير ، فبقي في خدمته عشر سنين ثم مات ، وازدحم أولاده على الملك ، وطغى الخصوم ، فدبر الأمور ، ووطد الملك لملك شاه فصار الأمر كله إليه وليس للسلطان إلا التخت والصيد ، فبقي على هذه عشرين سنة ودخل على المقتدي ، فأذن له في الجلوس بين يديه وقال له: يا حسن رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين وأهل الدين عنك ، وكان مجلسه عامرا بالفقهاء وأئمة المسلمين وأهل التدين حتى كانوا يشغلونه عن مهمات الدولة ، فقال له بعض كتابه: هذه الطائفة من العلماء قد بسطتهم في مجلسك حتى شغلوك عن مصالح الرعية ليلا ونهارا ، فإن تقدمت أن لا يوصل أحد منهم إلا بإذن ، وإذا وصل جلس بحيث لا يضيق عليك مجلسك . فقال: هذه الطائفة أركان الإسلام ، وهم جمال الدنيا والآخرة ، ولو أجلست كلا منهم على رأسي لاستقللت لهم ذلك .

            وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلسهما في مسند ويجلس في المسند على حالته .

            فإذا دخل عليه أبو علي الفارمذي قام وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه ، فامتعض من هذا الجويني فقال لحاجبه في ذلك فأخبره ، فقال: هو والقشيري وأمثالهما قالوا لي: أنت أنت ، وأطروني بما ليس في ، فيزيدني كلامهم تيها ، والفارمذي يذكر لي عيوبي ، وظلمي فأنكر وأرجع عن كثير مما أنا فيه . وكان المتصوفة تنفق عليه حتى إنه أعطى بعض متمنيهم في مرات ثمانين ألف دينار .

            وعن أبي محمد التميمي سبب تعظيم نظام الملك للصوفية قال: سألت نظام الملك عن سبب



            تعظيمه الصوفية فقال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء ، فوعظني وقال: اخدم من تنفعك خدمته ، ولا تشتغل بما تأكله الكلاب غدا فلم أعرف معنى قوله ، فشرب ذلك الأمير من الغد ، وكانت له كلاب كالسباع تفرس الغرباء بالليل ، فغلبه السكر وخرج وحده فلم تعرفه الكلاب فمزقته ، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك فأنا أطلب أمثاله .

            وكان للنظام من المكرمات ما لا يحصى كلما سمع الأذان أمسك عما هو فيه ، وكان يراعي أوقات الصلوات ، ويصوم الاثنين والخميس ، ويكثر الصدقة ، وكان له الحلم والوقار وأحسن خلاله مراعاة العلماء ، وتربية العلم ، وبناء المدارس والمساجد والرباطات والوقوف عليها ، وأثره العجيب ببغداد هذه المدرسة وسقوفها الموقوف عليها ، وفي كتاب شرطها أنها وقف على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا ، وكذلك الأملاك الموقوفة عليها شرط فيها أن يكون على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا ، وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها والواعظ الذي يعظ بها ومتولي الكتب ، وشرط أن يكون فيها مقرئ القرآن ، ونحوي يدرس العربية ، وفرض لكل قسطا من الوقف ، وكان يطلق ببغداد كل سنة من الصلات مائتي كر ، وثمانية عشر ألف دينار .

            ولما طالت ولايته تقررت قواعده قبل قدره ، ولما عبر في جيحون وقع للملاحين بأجرتهم على عامل أنطاكية بعشرة آلاف دينار ، وملك من الغلمان الأتراك ألوفا ، وحدث بمرو ، ونيسابور ، والري ، وأصبهان ، وبغداد ، وأملى في جامع المهدي ، وفي مدرسته ، وكان يقول: إني لأعلم أني لست أهلا للرواية ، ولكني أريد أن أربط نفسي على قطار النقلة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

            وحدث عنه جماعة من شيوخنا منهم أبو الفضل الأرموي ، وآخر من روى عنه أبو القاسم العكبري ، وكان النظام يقول: كنت أتمنى أن يكون لي قرية ومسجد أتخلى فيه بطاعة ربي ، ثم تمنيت بعد ذلك قطعة من الأرض بشربها أقوت برفعها ، وأتخلى في مسجد في جبل ، ثم الآن أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم وأتعبد في مسجد .

            وقال: رأيت إبليس في النوم - فقلت له: ويلك ، خلقك الله ثم أمرك بسجدة فلم تفعل ، وأنا الحسن أمرني بالسجود فأنا أسجد له كل يوم سجدات فقال:


            من لم يكن للوصال أهلا     فكل إحسانه ذنوب

            وكان له أولاد جماعة وزر منهم خمسة للسلاطين ، وزر أحمد بن النظام لمحمد ابن ملك شاه وللمسترشد ، قال المصنف: ونقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل قال: رأينا في أوائل أعمارنا [ناسا] طاب العيش معهم ، من العلماء والزهاد وأعيان الناس ، وأما النظام فإن سيرته بهرت العقول جودا وكرما وحشمة وإحياء لمعالم الدين ، فبنى المدارس ، ووقف عليها الوقوف ونعش العلم وأهله ، وعمر الحرمين ، وعمر دور الكتب ، وابتاع الكتب فكانت سوق العلم في أيامه قائمة ، والعلماء مستطيلين على الصدور من أبناء الدنيا ، وما ظنك برجل كان الدهر في خفارته ، لأنه كان قد أفاض من الإنعام ما أرضى الناس ، وإنما كانوا يذمون الدهر لضيق أرزاق واختلال أحوال ، فلما عمهم إحسانه أمسكوا عن ذم زمانهم .

            قال ابن عقيل: بلغت كلمتي هذه وهي قوله كان الدهر في خفارته جماعة من الوزراء والعمداء فسطروها واستحسنها العقلاء الذين سمعوها .

            قال ابن عقيل: وقلت مرة في وصفه ترك الناس بعده موتى أما أهل العلم والفقراء ففقدوا العيش بعده بانقطاع الأرزاق ، وأما الصدور والأغنياء فقد كانوا مستورين بالغناء عنهم ، فلما عرضت الحاجات إليهم عجزوا عن تحمل بعض ما عود من الإحسان ، فانكشفت معايبهم من ضيق الصدور ، فهؤلاء موتى بالمنع وهؤلاء موتى بالذم ، وهو حي بعد موته بمدح الناس لأيامه ، ثم ختم له بالشهادة فكفاه الله أمر آخرته كما كفى أهل العلم أمر دنياهم ، ولقد كان نعمة من الله على أهل الإسلام فما شكروها فسلبوها .

            وأسقط نظام الملك المكوس ، والضرائب ، وأزال لعن الأشعرية من المنابر ، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة ، فأمره بذلك ، فأضاف إليهم الأشعرية ، ولعن الجميع ، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم ، مثل إمام الحرمين ، وأبي القاسم القشيري ، وغيرهما ، فلما ولي ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه ، وأعاد العلماء إلى أوطانهم .

            وقيل : كان ليلة يأكل الطعام ، وبجانبه أخوه أبو القاسم ، وبالجانب الآخر عميد خراسان ، وإلى جانب العميد إنسان فقير ، مقطوع اليد ، فنظر نظام الملك ، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع ، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر ، وقرب المقطوع إليه فأكل معه .

            وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ، ويقربهم إليه ، ويدنيهم . وأخباره مشهورة كثيرة ، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية