في سنة خمس وثمانين وأربعمائة ، عاشر رمضان ، قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند ، وكان هو والسلطان في أصبهان ، وقد عاد إلى بغداذ ، فلما كان بهذا المكان ، بعد أن فرغ من إفطاره ، وخرج في محفته إلى خيمة حرمه ، أتاه صبي ديلمي من الباطنية ، في صورة مستميح ، أو مستغيث فضربه بسكين كانت معه ، فقضى عليه ، وهرب ، فعثر بطنب خيمة ، فأدركوه فقتلوه ، وركب السلطان إلى خيمه ، فسكن عسكره ، وأصحابه .
وبقي وزير السلطان ثلاثين سنة سوى ما وزر للسلطان ألب أرسلان ، صاحب خراسان ، أيام عمه طغرلبك ، قبل أن يتولى السلطنة ، وكان علت سنه ، فإنه كان مولده سنة ثمان وأربعمائة .
وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده نظام الملك رئاسة مرو ، وأرسل السلطان إليها شحنة يقال له قودن ، وهو من أكبر مماليكه ، ومن أعظم الأمراء في دولته ، فجرى بينه ، وبين عثمان منازعة في شيء ، فحملت عثمان حداثة سنه ، وتمكنه ، وطمعه بجده ، على أن قبض عليه ، وأخرق به ، ثم أطلقه ، فقصد السلطان مستغيثا شاكيا ، فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة ( مع تاج الدولة ) ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته يقول له : إن كنت شريكي في الملك ، ويدك مع يدي في السلطنة ، فلذلك حكم ، وإن كنت نائبي ، وبحكمي ، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة ، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة ، وولي ولاية كبيرة ، ولم يقنعهم ذلك ، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا ، وأطال القول ، وأرسل معهم الأمير يلبرد ، وكان من خواصه وثقاته ، وقال له : تعرفني ما يقول ، فربما كتم هؤلاء شيئا .
فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة ، فقال لهم : قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم ، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي ، أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره ، وقمعت الخوارج عليه من أهله ، وغيرهم ، منهم : فلان وفلان ، وذكر جماعة من خرج عليه ، وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني ، ولا يخالفني ، فلما قدت الأمور إليه ، وجمعت الكلمة عليه ، وفتحت له الأمصار القريبة ، والبعيدة ، وأطاعه القاصي ، والداني ، أقبل يتجنى لي الذنوب ، ويسمع في السعايات ؟ قولوا له عني : إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة ، وإن اتفاقهما رباط كل رغيبة وسبب كل غنيمة ، ومتى أطبقت هذه زالت تلك ، فإن عزم على تغيير فليتزود للاحتياط قبل وقوعه ، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه ، وأطال فيما هذا سبيله ، ثم قال لهم : قولوا للسلطان عني مهما أردتم ، فقد أهمني ما لحقني من توبيخه ، وفت في عضدي .
فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان ، وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصل ، ومضوا إلى منازلهم ، وكان الليل قد انتصف ، ومضى يلبرد إلى السلطان فأعلمه ما جرى ، وبكر الجماعة إلى السلطان ، وهو ينتظرهم ، فقالوا له من الاعتذار والعبودية ما كانوا اتفقوا عليه ، فقال لهم السلطان : إنه لم يقل هذا ، وإنما قال كيت ، وكيت ، فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحق نظام الملك ، وسابقته ، فوقع التدبير عليه ، حتى تم عليه من القتل ما تم .
ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوما ، وانحلت الدولة ، ووقع السيف ، وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له ، وأكثر الشعراء مراثيه ، فمن جيد ما قيل فيه قول شبل الدولة مقاتل بن عطية :
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة يتيمة صاغها الرحمن من شرف عزت فلم تعرف الأيام قيمتها
فردها غيرة منه إلى الصدف
ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام ، فسأله عن حاله ، فقال : كان يعرض علي جميع عملي لولا الحديدة التي أصبت بها ، يعني : القتل . ترجمة نظام الملك وزير السلطانين ألب أرسلان وولده ملك شاه نسقا متتاليا تسعا وعشرين سنة . الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس ، أبو علي الطوسي ، الملقب: نظام الملك
ولد بطوس ، وكان من أولاد الدهاقين وأرباب الضياع بناحية بيهق ، كان عالي الهمة إلا أنه كان فقيرا مشغولا بالفقه والحديث ، ثم اتصل بخدمة أبي علي بن شاذان المعتمد عليه ببلخ ، فكان يكتب له ، وكان يصادره كل سنة ، فهرب منه فقصد داود بن ميكائيل والد السلطان ألب أرسلان ، وعرفه رغبته في خدمته ، فلما دخل عليه أخذ بيده فسلمه إلى ولده ألب أرسلان ، وقال: هذا حسن الطوسي ، فتسلمه واتخذه والدا لا تخالفه ، وقيل: بل خدم ابن شاذان إلى أن توفي فأوصى به إلى ألب أرسلان فلما صار الملك إلى ألب أرسلان دبر له الملك فأحسن التدبير ، فبقي في خدمته عشر سنين ثم مات ، وازدحم أولاده على الملك ، وطغى الخصوم ، فدبر الأمور ، ووطد الملك لملك شاه فصار الأمر كله إليه وليس للسلطان إلا التخت والصيد ، فبقي على هذه عشرين سنة ودخل على المقتدي ، فأذن له في الجلوس بين يديه وقال له: يا حسن رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين وأهل الدين عنك ، وكان مجلسه عامرا بالفقهاء وأئمة المسلمين وأهل التدين حتى كانوا يشغلونه عن مهمات الدولة ، فقال له بعض كتابه: هذه الطائفة من العلماء قد بسطتهم في مجلسك حتى شغلوك عن مصالح الرعية ليلا ونهارا ، فإن تقدمت أن لا يوصل أحد منهم إلا بإذن ، وإذا وصل جلس بحيث لا يضيق عليك مجلسك . فقال: هذه الطائفة أركان الإسلام ، وهم جمال الدنيا والآخرة ، ولو أجلست كلا منهم على رأسي لاستقللت لهم ذلك .
وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلسهما في مسند ويجلس في المسند على حالته .
فإذا دخل عليه أبو علي الفارمذي قام وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه ، فامتعض من هذا الجويني فقال لحاجبه في ذلك فأخبره ، فقال: هو والقشيري وأمثالهما قالوا لي: أنت أنت ، وأطروني بما ليس في ، فيزيدني كلامهم تيها ، والفارمذي يذكر لي عيوبي ، وظلمي فأنكر وأرجع عن كثير مما أنا فيه . وكان المتصوفة تنفق عليه حتى إنه أعطى بعض متمنيهم في مرات ثمانين ألف دينار .
وعن أبي محمد التميمي سبب تعظيم نظام الملك للصوفية قال: سألت نظام الملك عن سبب
تعظيمه الصوفية فقال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء ، فوعظني وقال: اخدم من تنفعك خدمته ، ولا تشتغل بما تأكله الكلاب غدا فلم أعرف معنى قوله ، فشرب ذلك الأمير من الغد ، وكانت له كلاب كالسباع تفرس الغرباء بالليل ، فغلبه السكر وخرج وحده فلم تعرفه الكلاب فمزقته ، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك فأنا أطلب أمثاله .
وكان للنظام من المكرمات ما لا يحصى كلما سمع الأذان أمسك عما هو فيه ، وكان يراعي أوقات الصلوات ، ويصوم الاثنين والخميس ، ويكثر الصدقة ، وكان له الحلم والوقار وأحسن خلاله مراعاة العلماء ، وتربية العلم ، وبناء المدارس والمساجد والرباطات والوقوف عليها ، وأثره العجيب ببغداد هذه المدرسة وسقوفها الموقوف عليها ، وفي كتاب شرطها أنها وقف على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا ، وكذلك الأملاك الموقوفة عليها شرط فيها أن يكون على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا ، وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها والواعظ الذي يعظ بها ومتولي الكتب ، وشرط أن يكون فيها مقرئ القرآن ، ونحوي يدرس العربية ، وفرض لكل قسطا من الوقف ، وكان يطلق ببغداد كل سنة من الصلات مائتي كر ، وثمانية عشر ألف دينار .
ولما طالت ولايته تقررت قواعده قبل قدره ، ولما عبر في جيحون وقع للملاحين بأجرتهم على عامل أنطاكية بعشرة آلاف دينار ، وملك من الغلمان الأتراك ألوفا ، وحدث بمرو ، ونيسابور ، والري ، وأصبهان ، وبغداد ، وأملى في جامع المهدي ، وفي مدرسته ، وكان يقول: إني لأعلم أني لست أهلا للرواية ، ولكني أريد أن أربط نفسي على قطار النقلة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وحدث عنه جماعة من شيوخنا منهم أبو الفضل الأرموي ، وآخر من روى عنه أبو القاسم العكبري ، وكان النظام يقول: كنت أتمنى أن يكون لي قرية ومسجد أتخلى فيه بطاعة ربي ، ثم تمنيت بعد ذلك قطعة من الأرض بشربها أقوت برفعها ، وأتخلى في مسجد في جبل ، ثم الآن أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم وأتعبد في مسجد .
وقال: رأيت إبليس في النوم - فقلت له: ويلك ، خلقك الله ثم أمرك بسجدة فلم تفعل ، وأنا الحسن أمرني بالسجود فأنا أسجد له كل يوم سجدات فقال:
من لم يكن للوصال أهلا فكل إحسانه ذنوب
قال ابن عقيل: بلغت كلمتي هذه وهي قوله كان الدهر في خفارته جماعة من الوزراء والعمداء فسطروها واستحسنها العقلاء الذين سمعوها .
قال ابن عقيل: وقلت مرة في وصفه ترك الناس بعده موتى أما أهل العلم والفقراء ففقدوا العيش بعده بانقطاع الأرزاق ، وأما الصدور والأغنياء فقد كانوا مستورين بالغناء عنهم ، فلما عرضت الحاجات إليهم عجزوا عن تحمل بعض ما عود من الإحسان ، فانكشفت معايبهم من ضيق الصدور ، فهؤلاء موتى بالمنع وهؤلاء موتى بالذم ، وهو حي بعد موته بمدح الناس لأيامه ، ثم ختم له بالشهادة فكفاه الله أمر آخرته كما كفى أهل العلم أمر دنياهم ، ولقد كان نعمة من الله على أهل الإسلام فما شكروها فسلبوها .
وأسقط نظام الملك المكوس ، والضرائب ، وأزال لعن الأشعرية من المنابر ، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة ، فأمره بذلك ، فأضاف إليهم الأشعرية ، ولعن الجميع ، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم ، مثل إمام الحرمين ، وأبي القاسم القشيري ، وغيرهما ، فلما ولي ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه ، وأعاد العلماء إلى أوطانهم .
وقيل : كان ليلة يأكل الطعام ، وبجانبه أخوه أبو القاسم ، وبالجانب الآخر عميد خراسان ، وإلى جانب العميد إنسان فقير ، مقطوع اليد ، فنظر نظام الملك ، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع ، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر ، وقرب المقطوع إليه فأكل معه .
وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ، ويقربهم إليه ، ويدنيهم . وأخباره مشهورة كثيرة ، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد .