وفاة السلطان ، وذكر بعض سيرته
سار السلطان ملكشاه ، بعد قتل نظام الملك ، إلى بغداذ ، ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان ، ولقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير ، وظهرت من تاج الملك كفاية عظيمة ، وكان السلطان قد أمر أن تفصل خلع الوزارة لتاج الملك ، وكان هو الذي سعى بنظام الملك ، فلما فرغ من الخلع ، ولم يبق غير لبسها ، والجلوس في الدست ، اتفق أن السلطان خرج إلى الصيد ، وعاد ثالث شوال مريضا ، وأنشب الموت أظفاره فيه ، ولم يمنع عنه سعة ملكه ، وكثرة عساكره .
وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد ، ولم يستوف إخراج الدم ، فثقل مرضه ، وكانت حمى محرقة ، فتوفي ليلة الجمعة ، النصف من شوال .
ولما ثقل نقل أرباب دولته أموالهم إلى حريم دار الخلافة ، ولما توفي سترت زوجته تركان خاتون - المعروفة بخاتون الجلالية - موته ، وكتمته ، وأعادت جعفرا ابن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله ، وسارت من بغداذ ، والسلطان معها محمولا ، وبذلت الأموال للأمراء سرا ، واستحلفتهم لابنها محمود ، وكان تاج الملك يتولى ذلك لها ، وأرسلت قوام الدولة كربوقا الذي صار صاحب الموصل إلى أصبهان بخاتم السلطان ، فاستنزل مستحفظ القلعة ، وتسلمها ، وأظهر أن السلطان أمره بذلك ، ولم يسمع بسلطان مثله لم يصل عليه أحد ، ولم يلطم عليه وجه .
وكان مولده سنة سبع وأربعين وأربعمائة ، وكان من أحسن الناس صورة ، ومعنى ، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام ، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن ، وحمل إليه ملوك الروم الجزية ، ولم يفته مطلب ، وانقضت أيامه على أمن عام ، وسكون شامل ، وعدل مطرد .
وقيل أنه لما استقر ركابه ببغداد وجاء الناس للسلام عليه والتهنئة بقدومه وأرسل إليه الخليفة يهنئه فأرسل إلى الخليفة يقول له : لا بد أن تترك لي بغداد وتتحول إلى أي البلاد شئت ، فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهرا فرد عليه : ولا ساعة واحدة ، فأرسل إليه يتوسل في إنظاره عشرة أيام ، فأجاب إلى ذلك بعد تمنع شديد ، فما استتم الأجل حتى خرج السلطان يوم عيد الفطر إلى الصيد فأصابته حمى شديدة فافتصد فما قام منها حتى مات قبل العشرة أيام ولله الحمد والمنة . ترجمة السلطان ملكشاه ملك شاه ، ويكنى: أبا الفتح بن أبي شجاع ، محمد ألب أرسلان ابن داود بن ميكائيل بن سلجوق الملقب جلال الدولة
.
عمر القناطر ، وأسقط المكوس والضرائب وحفر الأنهار الخراب ، وبنى الجامع الذي يقال له جامع السلطان الذي يقال له أنه جدد بناه ببغداد ، وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق ، وبنى منارة القرون من صيوده ، وهي التي بظاهر الكوفة ، وبنى مثلها وراء النهر ، وتذكر ما اصطاده بنفسه ، فكان عشرة آلاف فتصدق بعشرة آلاف دينار ، وقال: إني خائف من الله سبحانه من إرهاق روح لغير مأكلة ، وخطب له من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن ، وراسله الملوك حتى قال النظام: كم من يوم وقعت بإطلاق إذ مات لرسل ملك الروم ، واللان ، والخزر ، والشام ، واليمن ، وفارس وغير ذلك . قال: وإن خرج هذا السلطان في السنة أكثر من عشرين ألف ألف دينار ، وكانت السبل في زمانه آمنة ، وكانت نيته في الخير جميلة ، وكان يقف للمرأة والضعيف ولا يبرح إلا بعد إنصافهم .
ومن محاسن ما جرى له في ذلك أن بعض التجار قال: كنت يوما في معسكره ، فركب يوما إلى الصيد ، فلقيه سوادي يبكي فقال له: ما لك؟ [فقال له] يا خيلباشي كان معي حمل بطيخ هو بضاعتي فلقيني ثلاثة غلمان فأخذوه . فقال له: امض إلى العسكر ، فهناك قبة حمراء ، فاقعد عندها ولا تبرح إلى آخر النهار ، فأنا أرجع وأعطيك ما يغنيك . فلما عاد قال للشرابي قد اشتهيت بطيخا ففتش العسكر وخيمهم ففعل ، فأحضر البطيخ فقال: عند من رأيتموه؟ فقال: في خيمة فلان الحاجب . فقال: أحضروه فأحضر فقال له: من أين لك هذا البطيخ؟ فقال: جاء به الغلمان . فقال: أريدهم هذه الساعة . فمضى وقد أحس بالشر ، فهرب الغلمان خوفا من أن يقتلهم ، وعاد وقال: قد هربوا لما علموا أن السلطان يطلبهم فقال: أحضروا السوادي ، فأحضر فقال له: هذا بطيخك الذي أخذ منك؟ قال: نعم فقال: هذا الحاجب مملوك أبي ومملوكي ، وقد سلمته إليك [و] وهبته لك ، ولم يحضر الذين أخذوا مالك ، ووالله لئن تركته لأضربن رقبتك . فأخذ السوادي بيد الحاجب وأخرجه ، فاشترى الحاجب نفسه منه بثلاثمائة دينار ، فعاد السوادي إلى السلطان فقال: يا سلطان قد بعت المملوك الذي وهبته لي بثلاثمائة دينار . فقال: قد رضيت بذلك؟ قال: نعم . فقال: اقبضها وامض مصاحبا .
ومن محاسن أفعاله أنه لقي إنسانا تاجرا على عقبة معه بغال عليها متاع فذهب أصحابه ينحون البغال إلى صاحب الخيل ، فقال: لا تفعلوا نحن على خيل يمكننا أن نصعد إلى هناك ، وهذه البغال عليها أثقال وفي ترقيتها خطر ، فصعد على الجادة إلى أن مضى التاجر بأحماله ، ثم عاد ، ولقي امرأة تمشي فقال لها: إلى أين؟ قالت: إلى الحج . قال: كيف تقدرين على ذلك؟ قالت: أمشي إلى بغداد وأطرح نفسي هناك على من يحملني لطلب الثواب ، فأخرج ما كان في خريطته من الدنانير فطرحه في إزارها ، وقال: خذي هذا فاشتري منه مركوبا ، واصرفي بقيته في نفقتك ، ولما توجه إلى حرب أخيه تكش اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس فدخل للزيارة ومعه النظام ، فلما خرجا قال له: يا حسن ، بما دعوت؟ فقال: دعوت الله أن يظفرك بأخيك فقال: إنني لم اسأل ذلك ، وإنما قلت: اللهم إن كان أخي أصلح للمسلمين مني فظفره بي ، وإن كنت أصلح لهم فظفرني به .
وجاء إليه تركماني قد لازم تركمانيا فقال له: إني وجدت هذا قد ابتنى بابنتي ، وأريد أن تأذن لي في قتله . فقال: لا تقتله ولكنا نزوجها به ، ونعطي المهر من خزانتنا عنه . فقال: لا أقنع إلا بقتله . فقال: هاتوا سيفا . فجيء به فأخذه وسله وقال للرجل: تعال . فتعجب الناس وظنوا أنه يقتل الأب ، فلما قرب منه أعطاه السيف وأمسك بيده الجفن ، وأمره أن يعيد السيف إلى الجفن فكلما رام الرجل ذلك قلب السلطان الجفن فلم يمكنه من إدخال السيف فيه ، فقال: ما لك لا تدخل السيف؟ فقال: يا سلطان ، ما تدعني . فقال: كذلك ابنتك لو لم ترد ما فعل بها هذا الرجل ، ولما أمكنه غصبها وقهرها ، فإن كنت تريد قتله [لأجل فعله] فاقتلهما جميعا ، فبقي الرجل لا يرد جوابا ، وقال: الأمر للسلطان . فأحضر من زوجه بها وأعطى المهر من الخزانة .
ودخل على هذا السلطان واعظ فحكى له أن بعض الأكاسرة انفرد عن عسكره ، فجاز على بستان فطلب منه ماء ليشرب ، فأخرجت له صبية إناء فيه ماء قصب السكر والثلج فشربه ، فاستطابه فقال: هذا كيف يعمل؟ فقالت: من قصب السكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء . فقال: أحضريني شيئا آخر منه [فمضت وهي لا تعرفه] فنوى في نفسه اصطفاء المكان لنفسه وتعويضهم عنه ، فما كان بأسرع من أن خرجت باكية فقال لها: ما لك؟ فقالت . نية سلطاننا قد تغيرت علينا . فقال لها: من أين علمت؟ قالت كنت آخذ من هذا الماء ما أريد من غير تعسف ، والآن فقد اجتهدت في العصر فلم يسمح ببعض ما كان يخرج عفوا . فعلم صدقها فقال: ارجعي الآن فإنك تلقين الغرض ، ونوى أن لا يفعل ما عزم عليه ، فخرجت ومعها ما شاءت وهي مستبشرة .
فلما حكى الواعظ هذا قال له السلطان: أنت تحكي لي مثل هذا فلم لا تحكي للرعية أن كسرى اجتاز وحده على بستان فقال للناطور: ناولني عنقودا من الحصرم [فقد كظني العطش واستولت علي الصفراء] فقال له: ما يمكنني ، فإن السلطان لم يأخذ حقه منه فما يمكنني جنايته ، فعجب من حضر وكان فيهم نظام الملك ، من مقابلة السلطان تلك الحكاية بهذه ، واستدلوا على قوة فطنته ، وقد سار هذا السلطان من أصبهان إلى أنطاكية ، وعاد إلى بغداد ، فما نقل أن أحدا من عسكره أخذ شيئا بغير حق ودخل إلى بغداد ثلاث مرات وكان الناس يخافون الغلاء فيظهر الأمر بخلاف ما ظنوا ، وكانت السوقة تخترق عسكره ليلا ونهارا ، والسوادي يطوف بالتين والدجاج في وسط العسكر ولا يخافون ولا يبيعون إلا بما يريدون . وتقدم بترك المكوس فقال له أحد المستوفين يا سلطان ، العام قد أسقطت من خزائن أموالك ستمائة ألف ونيفا فيما هذا سبيله ، فقال: المال مال الله ، والعبيد عبيده ، والبلاد بلاده ، وإنما يبقى في ذلك ، فمتى راجعني أحد في ذلك تقدمت بضرب عنقه .
وذكر هبة الله بن المبارك بن يوسف السقطي في تاريخه قال: حدثني عبد السميع بن داود العباسي قال: قصد ملك شاه رجلان من أهل البلاد السفلى من أرض العراق يعرفان: بابني غزال ، من قرية تعرف بالحدادية ، فتعلقا بركابه وقالا: نحن من أسفل واسط من قرية تعرف بالحدادية ، مقطعة لخمارتكين الحلبي ، صادرنا على ألف وستمائة دينار ، وكسر ثنيتي أحدنا والثنيتان بيده ، وقد قصدناك أيها الملك لتقتص لنا منه ، فقد شاع من عدلك ما حملنا على قصدك ، فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك وإلا فالله الحاكم بالعدل بيننا . وفسر على السلطان ما قالاه . قال عبد السميع: فشاهدت السلطان وقد نزل عن فرسه وقال: ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي واسحباني إلى دار حسن هو نظام الملك [فأفزعهما] ذلك ، ولم يقدما عليه ، فأقسم عليهما إلا فعلا ، فأخذ كل واحد منهما بطرف كمه وسارا به إلى باب النظام ، فبلغه الخبر ، فخرج مسرعا وقبل الأرض بين يديه وقال أيها السلطان المعظم ، ما حملك على هذا؟ فقال: كيف يكون حالي غدا بين يدي الله إذا طولبت بحقوق المسلمين وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف ، فإن تطرق على الرعية ثلم لم يتطرق إلا بك وأنت المطالب ، فانظر بين يديك ، فقبل الأرض وسار في خدمته ، وعاد من وقته ، فكتب بعزل خمارتكين وحل إقطاعه ، ورد المال إليها وقلع ثنيتيه إن ثبت عليه البينة ، ووصلهما بمائة دينار ، وعادا من وقتهما .
واستحضر ملك شاه مغنية مستحسنة بالري فأعجبته بغنائها واستطابه ، فتاقت نفسه إليها فقالت له: يا سلطان ، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذب بالنار وإن بين الحلال والحرام كلمة . فقال: صدقت . واستدعى القاضي فزوجه إياها وكان هذا السلطان قد أفسد عقيدته الباطنية ، ثم رجع إلى الصلاح .
قال المصنف: نقلت من خط ابن عقيل قال: كان الجرجاني الواعظ مختصا بجلال الدولة فاستسرني أن الملك قد أفسده الباطنية ، فصار يقول لي: أيش هو الله؟ وإلى ما تشيرون بقولكم الله؟ فبهت وأردت جوابا حسنا فكتبت: اعلم أيها الملك أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس ، فإذا فقدوه جحدوه ، وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة ، وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس ، ولم يجحدها العقل ، ولم يمكننا جحدها لقيام دلالة العقل على إثباتها ، فإن قال لك أحد من هؤلاء:
لا يثبت إلا ما نرى فمن هاهنا دخل الإلحاد على جهال العوام الذين يستثقلون الأمر والنهي ، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة التي تنمي ولا يعد وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة كالطب ، والهندسة ، فعلموا أن ذلك صادر عن أمر وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل ، فإذا سألناهم هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم؟ قالوا: لا لكنا أدركناهما من طريق الاستدلال بما صدر عنهما من التأثيرات . قلنا: فما بالكم جحدتم الإله حيث فقدتموه حسا مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم ، وإدارة الأفلاك ، وإنبات الزرع ، وتقليب الأزمنة؟ وكما أن لهذا الجسد روحا وعقلا بهما قوامه ، ولا يدركهما الحس ، لكن شهدت بهما أدلة العقل من حيث الآثار ، كذلك الله سبحانه وتعالي ، وله المثل الأعلى ، ثبت بالعقل لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه ، وإتقان أفعاله . قال: فحكى لي أنه أعاده عليه فاستحسنه ، وهش إليه ، ولعن أولئك ، وكشف إليه ما يقولون له. وقيل إن بعض أمراء السلطان كان نازلا بهراة مع بعض العلماء اسمه عبد الرحمن في داره ، فقال يوما ذلك الأمير للسلطان ، وهو سكران : إن عبد الرحمن يشرب الخمر ، ويعبد الأصنام من دون الله تعالى ، ويحلل الحرام ، فلم يجبه ملكشاه ، فلما كان الغد صحا ذلك الأمير ، فأخذ السلطان السيف ، وقال له :
اصدقني عن فلان ، وإلا قتلتك ! فطلب منه الأمان ، فأمنه ، فقال : إن عبد الرحمن له دار حسناء ، وزوجة جميلة ، فأردت أن تقتله فأفوز بداره وزوجته ، فأبعده السلطان ، وشكر الله تعالى على التوقف عن قبول سعايته ، وتصدق بأموال جليلة المقدار .