الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وفاة السلطان ، وذكر بعض سيرته  

            سار السلطان ملكشاه ، بعد قتل نظام الملك ، إلى بغداذ ، ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان ، ولقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير ، وظهرت من تاج الملك كفاية عظيمة ، وكان السلطان قد أمر أن تفصل خلع الوزارة لتاج الملك ، وكان هو الذي سعى بنظام الملك ، فلما فرغ من الخلع ، ولم يبق غير لبسها ، والجلوس في الدست ، اتفق أن السلطان خرج إلى الصيد ، وعاد ثالث شوال مريضا ، وأنشب الموت أظفاره فيه ، ولم يمنع عنه سعة ملكه ، وكثرة عساكره .

            وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد ، ولم يستوف إخراج الدم ، فثقل مرضه ، وكانت حمى محرقة ، فتوفي ليلة الجمعة ، النصف من شوال .

            ولما ثقل نقل أرباب دولته أموالهم إلى حريم دار الخلافة ، ولما توفي سترت زوجته تركان خاتون - المعروفة بخاتون الجلالية - موته ، وكتمته ، وأعادت جعفرا ابن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله ، وسارت من بغداذ ، والسلطان معها محمولا ، وبذلت الأموال للأمراء سرا ، واستحلفتهم لابنها محمود ، وكان تاج الملك يتولى ذلك لها ، وأرسلت قوام الدولة كربوقا الذي صار صاحب الموصل إلى أصبهان بخاتم السلطان ، فاستنزل مستحفظ القلعة ، وتسلمها ، وأظهر أن السلطان أمره بذلك ، ولم يسمع بسلطان مثله لم يصل عليه أحد ، ولم يلطم عليه وجه .

            وكان مولده سنة سبع وأربعين وأربعمائة ، وكان من أحسن الناس صورة ، ومعنى ، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام ، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن ، وحمل إليه ملوك الروم الجزية ، ولم يفته مطلب ، وانقضت أيامه على أمن عام ، وسكون شامل ، وعدل مطرد .

            وقيل أنه لما استقر ركابه ببغداد وجاء الناس للسلام عليه والتهنئة بقدومه وأرسل إليه الخليفة يهنئه فأرسل إلى الخليفة يقول له : لا بد أن تترك لي بغداد وتتحول إلى أي البلاد شئت ، فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهرا فرد عليه : ولا ساعة واحدة ، فأرسل إليه يتوسل في إنظاره عشرة أيام ، فأجاب إلى ذلك بعد تمنع شديد ، فما استتم الأجل حتى خرج السلطان يوم عيد الفطر إلى الصيد فأصابته حمى شديدة فافتصد فما قام منها حتى مات قبل العشرة أيام ولله الحمد والمنة . ترجمة السلطان ملكشاه ملك شاه ، ويكنى: أبا الفتح بن أبي شجاع ، محمد ألب أرسلان ابن داود بن ميكائيل بن سلجوق الملقب جلال الدولة  

            .

            عمر القناطر ، وأسقط المكوس والضرائب وحفر الأنهار الخراب ، وبنى الجامع الذي يقال له جامع السلطان الذي يقال له أنه جدد بناه ببغداد ، وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق ، وبنى منارة القرون من صيوده ، وهي التي بظاهر الكوفة ، وبنى مثلها وراء النهر ، وتذكر ما اصطاده بنفسه ، فكان عشرة آلاف فتصدق بعشرة آلاف دينار ، وقال: إني خائف من الله سبحانه من إرهاق روح لغير مأكلة ، وخطب له من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن ، وراسله الملوك حتى قال النظام: كم من يوم وقعت بإطلاق إذ مات لرسل ملك الروم ، واللان ، والخزر ، والشام ، واليمن ، وفارس وغير ذلك . قال: وإن خرج هذا السلطان في السنة أكثر من عشرين ألف ألف دينار ، وكانت السبل في زمانه آمنة ، وكانت نيته في الخير جميلة ، وكان يقف للمرأة والضعيف ولا يبرح إلا بعد إنصافهم .

            ومن محاسن ما جرى له في ذلك أن بعض التجار قال: كنت يوما في معسكره ، فركب يوما إلى الصيد ، فلقيه سوادي يبكي فقال له: ما لك؟ [فقال له] يا خيلباشي كان معي حمل بطيخ هو بضاعتي فلقيني ثلاثة غلمان فأخذوه . فقال له: امض إلى العسكر ، فهناك قبة حمراء ، فاقعد عندها ولا تبرح إلى آخر النهار ، فأنا أرجع وأعطيك ما يغنيك . فلما عاد قال للشرابي قد اشتهيت بطيخا ففتش العسكر وخيمهم ففعل ، فأحضر البطيخ فقال: عند من رأيتموه؟ فقال: في خيمة فلان الحاجب . فقال: أحضروه فأحضر فقال له: من أين لك هذا البطيخ؟ فقال: جاء به الغلمان . فقال: أريدهم هذه الساعة . فمضى وقد أحس بالشر ، فهرب الغلمان خوفا من أن يقتلهم ، وعاد وقال: قد هربوا لما علموا أن السلطان يطلبهم فقال: أحضروا السوادي ، فأحضر فقال له: هذا بطيخك الذي أخذ منك؟ قال: نعم فقال: هذا الحاجب مملوك أبي ومملوكي ، وقد سلمته إليك [و] وهبته لك ، ولم يحضر الذين أخذوا مالك ، ووالله لئن تركته لأضربن رقبتك . فأخذ السوادي بيد الحاجب وأخرجه ، فاشترى الحاجب نفسه منه بثلاثمائة دينار ، فعاد السوادي إلى السلطان فقال: يا سلطان قد بعت المملوك الذي وهبته لي بثلاثمائة دينار . فقال: قد رضيت بذلك؟ قال: نعم . فقال: اقبضها وامض مصاحبا .

            ومن محاسن أفعاله أنه لقي إنسانا تاجرا على عقبة معه بغال عليها متاع فذهب أصحابه ينحون البغال إلى صاحب الخيل ، فقال: لا تفعلوا نحن على خيل يمكننا أن نصعد إلى هناك ، وهذه البغال عليها أثقال وفي ترقيتها خطر ، فصعد على الجادة إلى أن مضى التاجر بأحماله ، ثم عاد ، ولقي امرأة تمشي فقال لها: إلى أين؟ قالت: إلى الحج . قال: كيف تقدرين على ذلك؟ قالت: أمشي إلى بغداد وأطرح نفسي هناك على من يحملني لطلب الثواب ، فأخرج ما كان في خريطته من الدنانير فطرحه في إزارها ، وقال: خذي هذا فاشتري منه مركوبا ، واصرفي بقيته في نفقتك ، ولما توجه إلى حرب أخيه تكش اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس فدخل للزيارة ومعه النظام ، فلما خرجا قال له: يا حسن ، بما دعوت؟ فقال: دعوت الله أن يظفرك بأخيك فقال: إنني لم اسأل ذلك ، وإنما قلت: اللهم إن كان أخي أصلح للمسلمين مني فظفره بي ، وإن كنت أصلح لهم فظفرني به .

            وجاء إليه تركماني قد لازم تركمانيا فقال له: إني وجدت هذا قد ابتنى بابنتي ، وأريد أن تأذن لي في قتله . فقال: لا تقتله ولكنا نزوجها به ، ونعطي المهر من خزانتنا عنه . فقال: لا أقنع إلا بقتله . فقال: هاتوا سيفا . فجيء به فأخذه وسله وقال للرجل: تعال . فتعجب الناس وظنوا أنه يقتل الأب ، فلما قرب منه أعطاه السيف وأمسك بيده الجفن ، وأمره أن يعيد السيف إلى الجفن فكلما رام الرجل ذلك قلب السلطان الجفن فلم يمكنه من إدخال السيف فيه ، فقال: ما لك لا تدخل السيف؟ فقال: يا سلطان ، ما تدعني . فقال: كذلك ابنتك لو لم ترد ما فعل بها هذا الرجل ، ولما أمكنه غصبها وقهرها ، فإن كنت تريد قتله [لأجل فعله] فاقتلهما جميعا ، فبقي الرجل لا يرد جوابا ، وقال: الأمر للسلطان . فأحضر من زوجه بها وأعطى المهر من الخزانة .

            ودخل على هذا السلطان واعظ فحكى له أن بعض الأكاسرة انفرد عن عسكره ، فجاز على بستان فطلب منه ماء ليشرب ، فأخرجت له صبية إناء فيه ماء قصب السكر والثلج فشربه ، فاستطابه فقال: هذا كيف يعمل؟ فقالت: من قصب السكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء . فقال: أحضريني شيئا آخر منه [فمضت وهي لا تعرفه] فنوى في نفسه اصطفاء المكان لنفسه وتعويضهم عنه ، فما كان بأسرع من أن خرجت باكية فقال لها: ما لك؟ فقالت . نية سلطاننا قد تغيرت علينا . فقال لها: من أين علمت؟ قالت كنت آخذ من هذا الماء ما أريد من غير تعسف ، والآن فقد اجتهدت في العصر فلم يسمح ببعض ما كان يخرج عفوا . فعلم صدقها فقال: ارجعي الآن فإنك تلقين الغرض ، ونوى أن لا يفعل ما عزم عليه ، فخرجت ومعها ما شاءت وهي مستبشرة .

            فلما حكى الواعظ هذا قال له السلطان: أنت تحكي لي مثل هذا فلم لا تحكي للرعية أن كسرى اجتاز وحده على بستان فقال للناطور: ناولني عنقودا من الحصرم [فقد كظني العطش واستولت علي الصفراء] فقال له: ما يمكنني ، فإن السلطان لم يأخذ حقه منه فما يمكنني جنايته ، فعجب من حضر وكان فيهم نظام الملك ، من مقابلة السلطان تلك الحكاية بهذه ، واستدلوا على قوة فطنته ، وقد سار هذا السلطان من أصبهان إلى أنطاكية ، وعاد إلى بغداد ، فما نقل أن أحدا من عسكره أخذ شيئا بغير حق ودخل إلى بغداد ثلاث مرات وكان الناس يخافون الغلاء فيظهر الأمر بخلاف ما ظنوا ، وكانت السوقة تخترق عسكره ليلا ونهارا ، والسوادي يطوف بالتين والدجاج في وسط العسكر ولا يخافون ولا يبيعون إلا بما يريدون . وتقدم بترك المكوس فقال له أحد المستوفين يا سلطان ، العام قد أسقطت من خزائن أموالك ستمائة ألف ونيفا فيما هذا سبيله ، فقال: المال مال الله ، والعبيد عبيده ، والبلاد بلاده ، وإنما يبقى في ذلك ، فمتى راجعني أحد في ذلك تقدمت بضرب عنقه .

            وذكر هبة الله بن المبارك بن يوسف السقطي في تاريخه قال: حدثني عبد السميع بن داود العباسي قال: قصد ملك شاه رجلان من أهل البلاد السفلى من أرض العراق يعرفان: بابني غزال ، من قرية تعرف بالحدادية ، فتعلقا بركابه وقالا: نحن من أسفل واسط من قرية تعرف بالحدادية ، مقطعة لخمارتكين الحلبي ، صادرنا على ألف وستمائة دينار ، وكسر ثنيتي أحدنا والثنيتان بيده ، وقد قصدناك أيها الملك لتقتص لنا منه ، فقد شاع من عدلك ما حملنا على قصدك ، فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك وإلا فالله الحاكم بالعدل بيننا . وفسر على السلطان ما قالاه . قال عبد السميع: فشاهدت السلطان وقد نزل عن فرسه وقال: ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي واسحباني إلى دار حسن هو نظام الملك [فأفزعهما] ذلك ، ولم يقدما عليه ، فأقسم عليهما إلا فعلا ، فأخذ كل واحد منهما بطرف كمه وسارا به إلى باب النظام ، فبلغه الخبر ، فخرج مسرعا وقبل الأرض بين يديه وقال أيها السلطان المعظم ، ما حملك على هذا؟ فقال: كيف يكون حالي غدا بين يدي الله إذا طولبت بحقوق المسلمين وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف ، فإن تطرق على الرعية ثلم لم يتطرق إلا بك وأنت المطالب ، فانظر بين يديك ، فقبل الأرض وسار في خدمته ، وعاد من وقته ، فكتب بعزل خمارتكين وحل إقطاعه ، ورد المال إليها وقلع ثنيتيه إن ثبت عليه البينة ، ووصلهما بمائة دينار ، وعادا من وقتهما .

            واستحضر ملك شاه مغنية مستحسنة بالري فأعجبته بغنائها واستطابه ، فتاقت نفسه إليها فقالت له: يا سلطان ، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذب بالنار وإن بين الحلال والحرام كلمة . فقال: صدقت . واستدعى القاضي فزوجه إياها وكان هذا السلطان قد أفسد عقيدته الباطنية ، ثم رجع إلى الصلاح .

            قال المصنف: نقلت من خط ابن عقيل قال: كان الجرجاني الواعظ مختصا بجلال الدولة فاستسرني أن الملك قد أفسده الباطنية ، فصار يقول لي: أيش هو الله؟ وإلى ما تشيرون بقولكم الله؟ فبهت وأردت جوابا حسنا فكتبت: اعلم أيها الملك أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس ، فإذا فقدوه جحدوه ، وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة ، وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس ، ولم يجحدها العقل ، ولم يمكننا جحدها لقيام دلالة العقل على إثباتها ، فإن قال لك أحد من هؤلاء:

            لا يثبت إلا ما نرى فمن هاهنا دخل الإلحاد على جهال العوام الذين يستثقلون الأمر والنهي ، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة التي تنمي ولا يعد وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة كالطب ، والهندسة ، فعلموا أن ذلك صادر عن أمر وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل ، فإذا سألناهم هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم؟ قالوا: لا لكنا أدركناهما من طريق الاستدلال بما صدر عنهما من التأثيرات . قلنا: فما بالكم جحدتم الإله حيث فقدتموه حسا مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم ، وإدارة الأفلاك ، وإنبات الزرع ، وتقليب الأزمنة؟ وكما أن لهذا الجسد روحا وعقلا بهما قوامه ، ولا يدركهما الحس ، لكن شهدت بهما أدلة العقل من حيث الآثار ، كذلك الله سبحانه وتعالي ، وله المثل الأعلى ، ثبت بالعقل لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه ، وإتقان أفعاله . قال: فحكى لي أنه أعاده عليه فاستحسنه ، وهش إليه ، ولعن أولئك ، وكشف إليه ما يقولون له. وقيل إن بعض أمراء السلطان كان نازلا بهراة مع بعض العلماء اسمه عبد الرحمن في داره ، فقال يوما ذلك الأمير للسلطان ، وهو سكران : إن عبد الرحمن يشرب الخمر ، ويعبد الأصنام من دون الله تعالى ، ويحلل الحرام ، فلم يجبه ملكشاه ، فلما كان الغد صحا ذلك الأمير ، فأخذ السلطان السيف ، وقال له :

            اصدقني عن فلان ، وإلا قتلتك ! فطلب منه الأمان ، فأمنه ، فقال : إن عبد الرحمن له دار حسناء ، وزوجة جميلة ، فأردت أن تقتله فأفوز بداره وزوجته ، فأبعده السلطان ، وشكر الله تعالى على التوقف عن قبول سعايته ، وتصدق بأموال جليلة المقدار .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية