الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر وفاة الوزير أبي شجاع  

            في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة توفي الوزير أبو شجاع محمد بن الحسن بن عبد الله ، وزير الخليفة ، في جمادى الآخرة ، وأصله من روذراور ، وولد بالأهواز ، وقرأ الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، وكان عالما بالعربية ، وله تصانيف منها : ذيل تجارب الأمم ، وكان عفيفا ، عادلا ، حسن السيرة ، كثير الخير والمعروف ، وكان يملك ستمائة ألف دينار ، فأنفقها في سبيل الخيرات والصدقات ، ووقف الوقوف الحسنة ، وبنى المشاهد ، وأكثر الإنعام على الأرامل والأيتام . وقال أبو جعفر بن الخرقي: كنت أنا من أحد عشر يتولون إخراج صدقاته ، فحسبت ما خرج ع?لى يدي فكان مائة ألف دينار ، ووقف الوقوف ، وبنى المساجد ، وأكثر الإنعام على الأرامل واليتامى ، وكان يبيع الخطوط الحسنة ، ويتصدق بثمنها ويقول:



            أحب الأشياء إلي الدينار والخط الحسن ، فأنا أخرج لله محبوبي . ووقع مرض في زمانه ، فبعث إلى جميع أصقاع البلد أنواع الأشربة والأدوية ، وكان يخرج العشر من جميع أمواله النباتية على اختلاف أنواعه ، وعرضت عليه رقعة من بعض الصالحين يذكر فيها: أن امرأة معها أربعة أطفال أيتام ، وهم عراة جياع . فقال للرجل: امض الآن إليهم ، واحمل معك ما يصلحهم ، ثم خلع أثوابه وقال: والله لا لبستها ولا دفئت حتى تعود وتخبرني أنك كسوتهم وأشبعتهم ، فمضى وعاد فأخبره وهو يرعد من البرد .

            حكى حاجبه الخاص به قال: [استدعاني ليلة ، وقال:] إني أمرت بعمل قطائف ، فلما حضر بين يدي ذكرت نفوسا تشتهيه فلا تقدر عليه ، فنغص ذلك علي أكله ، ولم أذق منه شيئا ، فاحمل هذه الصحون إلى أقوام فقراء ، فحملها الفراشون معه ، وجعل يطرق أبواب المساجد بباب المراتب ، ويدفع ذلك إلى الأضراء المجاورين بها .

            وكان يبالغ في التواضع ، حتى ترك الاحتجاب فيكلم المرأة والطفل ، وأوطأ العوام والصالحين مجلسه ، وكان يحضر الفقهاء الديوان في كل مشكل ، وكانوا إذا أفتوا في حق شخص بوجوب حق القصاص عليه سأل أولياء الدم أخذ شيء من ماله وأن يعفوا ، فإن فعلوا وإلا أمر بالقصاص ، وأعطى ذلك المال ورثة المقتول الثاني .

            ولقد جرت منه عصبية مرة في ليل الغيم فأمر ابن الخرقي المحتسب أن يجلس بباب النوبي ويكرم الناس بالإفطار ، وأحضر أطباقا فيها لوز وسكر ، وبعث إلى أبي إسحاق الخزاز بباب المراتب ليمنعه من صلاة التراويح تلك الليلة فلم يمتنع ذلك ، وقرأ أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى [96: 9 -10] فعدد في هذا الشهر أن صام الناس ثمانية وعشرين يوما فأسقط في يده وذبح البقر ، وتصدق بصدقات وافرة ، وعاهد الله سبحانه أن لا يتعصب في الفروع أبدا .

            وفي زمانه أسقطت المكوس ، وألبس أهل الذمة الغيار ، وتقدم إلى ابن الخرقي المحتسب أن يؤدب كل من فتح دكانه يوم الجمعة ويغلقه يوم السبت من البزازين وغيرهم ، وقال: هذه مشاركة لليهود في حفظ سبتهم .

            وكان قد سمع أن النفاطين والكلابزية يقفون على دكاكين المتعيشين ، فيأخذون منهم كل أسبوع شيئا ، فنفذ من يمنعهم من الاجتياز بهم . وحج في وزارته سنة ثمانين ، فبذل في طريقه الزاد والأدوية ، وعم أهل الحرمين بصدقات ، وساوى الفقراء في إقامة المناسك والتعبد ، وكانت به وسوسة في الطهارة .

            قال المصنف رحمه الله: ونقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل أنه كتب إليه لأجل وسوسته: أما بعد ، فإن أجل محصول عند العقلاء بإجماع الفقهاء الوقت ، فهو غنيمة ينتهز فيها الفرص ، والتكاليف كثيره ، والأوقات خاطفة ، وأقل متعبد به الماء ، ومن اطلع على أسرار الشريعة علم قدر التخفيف ، فمن ذلك قوله: "صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء" وقوله في المني: "أمطه عنك بإذخرة" وقوله في الخف: "طهوره أن تدلكه بالأرض" وفي ذيل المرأة: "يطهره ما بعده" وقوله عليه السلام: "يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام" وكان يحمل بنت أبي العاص في الصلاة ، ونهى الراعي عن إعلام السائل له عن الماء ، وما يرده وقال: "ائت لنا طهورا" وقال: "يا صاحب البراز لا تخبره" .

            فإن خطر بالبال نوع احتياط في الطهارة كالاحتياط في غيرها من مراعاة الإطالة وغيبوبة الشمس والزكاة ، فإنه يفوت من الأعمار ما لا يفي به الاحتياط في الماء ، الذي أصله الطهارة ، وقد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب ، وركب الحمار ، وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء الذي أصله الطهارة ، وقد توضأ من سقاية المسجد ، ومعلوم حال الأعراب الذين بان من أحدهم الإقدام على البول في المسجد ، وتوضأ من جرة نصرانية ، وما احترز تعليما لنا وتشريعا وإعلاما أن الماء على أصل الطهارة ، وتوضأ من غدير كان ماؤه نقاعة الحناء .

            فأما قوله: "تنزهوا من البول" فإن للتنزه حدا معلوما ، فأما الاستشعار فإنه إذا علق نما وانقطع الوقت بما لا يقتضي بمثله الشرع .

            قال ابن عقيل: كان الوزير أبو شجاع كثير البر للخلق ، كثير التلطف بهم ، فقدم من الحج وقد اتفق نفور العوام نفورا أريقت فيها الدماء ، وانبسط حتى هجموا على الديوان ، وبطشوا بالأبواب والستور ، فخرج من الخليفة إنكار عليه ، وأمره أن يلبس أخلاق السياسة لتنحسم مادة الفساد ، فأدب وضرب وبطش ، فانبسطت فيه الألسنة بأنواع التهم ، حتى قال قوم: ها هو إسماعيلي ، وهبط عندهم ما تقدم من إحسانه .

            قال ابن عقيل: فقلت لنفسي: أفلس من الناس كل الإفلاس ، ولا تثق بهم ، فمن يقدر على إحسان هذا إليهم وهذه أقوالهم عنه؟!

            قال ابن عقيل: وقد رأيت أكثر أعمال الناس لا يقع إلا للناس إلا من عصم الله من ذاك ، إني رأيت في زمن أبي يوسف كثيرا من أهل القرآن والمنكرون لإكرام أصحاب عبد الصمد ، وكثر متفقهة الحنابلة ، ومات فاختل ذلك ، فاتفق ابن جهير ، فرأيت من كان يتقرب إلى الشيخ بالصلاح يتقرب إلى ابن جهير برفع أخبار العاملين ، ثم جاءت دولة النظام ، فعظم الأشعرية ، فرأيت من كان يتسخط علي بنفي التشبيه غلوا في مذهب أحمد ، وكان يظهر بغضي يعود [علي] بالغمض على الحنابلة ، وصار كلامه ككلام رافضي وصل إلى مشهد الحسين فأمن وباح ، ورأيت كثيرا من أصحاب المذاهب انتقلوا ونافقوا ، وتوثق بمذهب الأشعري والشافعي طمعا في العز والجرايات ، ثم رأيت الوزير أبا شجاع يدين بحب الصلحاء والزهاد ، فانقطع البطالون إلى المساجد ، وتعمد خلق للزهد ، فلما افتقدت ذلك قلت لنفسي: هل حظيت من هذا الافتقاد بشيء ينفعك؟ فقالت البصيرة: نعم ، استفدت أن الثقة خيبة ، فالغنى بهم إفلاس ، وليس ينبغي أن يعول على غير الله .



            قال المصنف: ولما عزل الوزير أبو شجاع خرج إلى الجامع [يوم الجمعة] فانثالت عليه العامة تصافحه وتدعو له ، فكان ذلك سببا لالتزامه بيته ، والإنكار على من صحبه ، وبنى في دهليز داره مسجدا وكان يؤذن ويصلي فيه ، ثم وردت كتب نظام الملك بإخراجه من بغداد ، فأخرج إلى بلده ، [فأقام مدة] ، ثم استأذن في الحج فأذن له فخرج .

            قال أبو الحسن [بن] عبد السلام: اجتمعت به في المدينة فقبل يدي فأعظمت ذلك ، فقال لي: قد كنت تفعل هذا بي فأحببت أن أكافئك . وجاور بالمدينة ، فلما مرض مرض الموت حمل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فوقف بالحضرة وبكى وقال: يا رسول الله ، قال الله عز وجل: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [4: 64] وقد جئت معترفا بذنوبي وجرائمي أرجو شفاعتك ، وبكى .

            وتوفي من يومه ودفن بالبقيع عند قبر إبراهيم عليه السلام بعد أن صلي عليه بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزور به الحضرة ، وذلك في منتصف جمادى الآخرة من هذه السنة ، وهو ابن إحدى وخمسين سنة ، وكان له شعر حسن ، فمنه قوله:


            ما كان بالإحسان أولاكم لو زرتم من [كان] يهواكم     أحباب قلبي ما لكم والجفا
            ومن بهذا الهجر أغراكم     ما ضركم لو عدتم مدنفا
            ممرضا من بعد قتلاكم     أنكرتمونا مذ عهدناكم
            وخنتمونا مذ حفظناكم     لا نظرت عيني سوى شخصكم
            ولا أطاع القلب إلاكم     جرتم وخنتم وتحاملتم
            على المعنى في قضاياكم     يا قوم ما أخونكم في الهوى
            وما على الهجران أجراكم


            حولوا وجوروا وأنصفوا أو اعدلوا     في كل حال لا عدمناكم
            ما كان أغناني عن المشتكى     إلى نجوم الليل لولاكم
            سلوا حداة العيس هل أوردت     ماء سوى دمعي مطاياكم
            أو فاسألوا طيفكم هل رأى     طرفي أغفى بعد مسراكم
            أحاول النوم عسى أنني     في مستلذ النوم ألقاكم
            ما آن أن تقضوا غريما لكم     يخشاكم أن يتقاضاكم
            يستنشق الريح إذا ما جرت     من نحو نجد أين مسراكم

            وله أيضا:


            لو أنكم عاينتم بعد مسراكم     وقوفي على الأطلال أندب مغناكم
            أنادي وعيني قد تفيض بذكراكم     أيا خلتي لم أبعد البين مرماكم
            ولم غبتم عن ناظري بعد رؤياكم     ولم نعب البين المشت وأقصاكم

            التالي السابق


            الخدمات العلمية