ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة
ذكر صلح الشهيد والسلطان مسعود
في هذه السنة وصل السلطان مسعود إلى بغداد على عادته في كل سنة ، وجمع العساكر ، وتجهز لقصد أتابك زنكي ، وكان حقد عليه حقدا شديدا .
وسبب ذلك أن أصحاب الأطراف الخارجين على السلطان مسعود كانوا يخرجون عليه - على ما تقدم ذكره - فكان ينسب ذلك إلى أتابك زنكي ، ويقول : إنه هو الذي سعى فيه وأشار به لعلمه أنهم كلهم كانوا يصدرون عن رأيه ، فكان أتابك زنكي لا شك يفعل ذلك ؛ لئلا يخلو السلطان فيتمكن منه ومن غيره ، فلما تفرغ السلطان هذه السنة جمع العساكر ليسير إلى بلاده ، فسير أتابك يستعطفه ويستميله ، فأرسل إليه السلطان أبا عبد الله بن الأنباري في تقرير القواعد ، فاستقرت القاعدة على مائة ألف دينار يحملها إلى السلطان ليعود عنه ، فحمل عشرين ألف دينار أكثرها عروض ، ثم تنقلت الأحوال بالسلطان إلى أن احتاج إلى مداراة أتابك ، وأطلق له الباقي استمالة له ، وحفظا لقلبه ، وكان أعظم الأسباب في قعود السلطان عنه ما يعمله من حصانة بلاده وكثرة عساكره وأمواله .
ومن جيد الرأي ما فعله الشهيد في هذه الحادثة ، فإنه كان ولده الأكبر سيف الدين غازي لا يزال عند السلطان سفرا ، وحضرا بأمر والده ، فأرسل إليه الآن يأمره بالهرب من عند السلطان إلى الموصل ، فأرسل إلى نائبه بها نصير الدين جقر يقول له ليمنعه عن الدخول والوصول إليه ، فهرب غازي .
وبلغ الخبر والده ، فأرسل إليه يأمره بالعود إلى السلطان ، ولم يجتمع به ، وأرسل معه رسولا إلى السلطان يقول له :
إن ولدي هرب خوفا من السلطان لما رأى تغيره علي ، وقد أعدته إلى الخدمة ، ولم أجتمع به ، فإنه مملوكك ، والبلاد لك ، فحل ذلك من السلطان محلا عظيما .