الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة

            ذكر حصر الفرنج دمياط

            في هذه السنة ، في صفر ، نزل الفرنج على مدينة دمياط من الديار المصرية ، وحصروها ، وكان الفرنج بالشام ، لما ملك أسد الدين شيركوه مصر ، قد خافوه ، وأيقنوا بالهلاك ، وكاتبوا الفرنج الذين بصقلية والأندلس وغيرهما يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدد من ملك الأتراك مصر ، وأنهم خائفون على البيت المقدس منهم ، فأرسلوا جماعة من القسوس والرهبان يحرضونهم على الحركة ، فأمدوهم بالأموال والرجال والسلاح ، واتعدوا للنزول على دمياط ظنا منهم أنهم يملكونها ، ويتخذونها ظهرا يملكون به الديار المصرية ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا فإلى أن دخلوا كان أسد الدين قد مات وملك صلاح الدين ، فاجتمعوا عليها ، وحصروها ، وضيقوا على من بها .

            فأرسل إليها صلاح الدين العساكر في النيل وحشر فيها كل من عنده ، وأمدهم بالأموال والسلاح والذخائر ، وأرسل إلى نور الدين يشكو ما هم فيه من المخافة ، ويقول : إني إن تأخرت عن دمياط ملكها الفرنج ، وإن سرت إليها خلفني المصريون في أهلها وأموالها بالشر ، وخرجوا عن طاعتي ، وساروا في أثري ، والفرنج من أمامي ، فلا يبقى لنا باقية .

            فسير نور الدين العساكر إليه أرسالا يتلو بعضها بعضا ، ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشامية ، فنهبها ، وأغار عليها واستباحها ، فوصلت الغارات إلى ما لم تكن تبلغه قبل لخلو البلاد من مانع .

            فلما رأى الفرنج تتابع العساكر إلى مصر ، ودخول نور الدين إلى بلادهم ونهبها وتخريبها ، رجعوا خائبين لم يظفروا بشيء ، ووجدوا بلادهم خرابا ، وأهلها بين قتيل وأسير ، فكانوا موضع المثل : خرجت النعامة تطلب قرنين رجعت بلا أذنين .

            وكانت مدة مقامهم على دمياط خمسين يوما أخرج فيها صلاح الدين أموالا لا تحصى ، حكي لي أنه قال : ما رأيت أكرم من العاضد ، أرسل إلي مدة لمقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها . ولما انجلت الفرنج عن دمياط فرح نور الدين والمسلمون فرحا شديدا ، وأنشد الشعراء كل منهم في ذلك قصيدا ، وقد كان الملك نور الدين شديد الاهتمام قوي الاغتمام بذلك ; حتى إنه قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءا فيه حديث مسلسل بالتبسم ، فطلب منه أن يبتسم ليتصل التسلسل ، فامتنع من ذلك ، وقال : إني لأستحيي من الله أن يراني متبسما والمسلمون تحاصرهم الفرنج بثغر دمياط ،

            وقد ذكر الشيخ أبو شامة أن إمام مسجد أبي الدرداء بالقلعة المنصورة رأى في تلك الليلة التي أجلى فيها الفرنج عن دمياط رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له سلم على نور الدين وبشره بأن الفرنج قد رحلوا عن دمياط ، . فقلت : يا رسول الله بأي علامة ؟ فقال : بعلامة ما سجد يوم تل حارم وقال : في سجوده اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودا ومن هو محمود الكلب حتى ينصر ؟ فلما صلى نور الدين عنده الصبح بشره بذلك وأعلمه بالعلامة ، وكشفوا تلك الليلة فإذا هي هي .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية