إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية
في سنة سبع وستين وخمسمائة ، في ثاني جمعة من المحرم ، قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد الإمام عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور بن نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الظاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله ، وهو أول العلويين من هذا البيت الذين خطب لهم بالخلافة ، وخوطبوا بإمرة المؤمنين .
وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبت قدمه بمصر وزال المخالفون له ، وضعف أمر الخليفة بها العاضد ، وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش ، وهو خصي ، كان من أعيان الأمراء الأسدية ، كلهم يرجعون إليه ، فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية ، فامتنع صلاح الدين ، واعتذر بالخوف من قيام أهل الديار المصرية عليه لميلهم إلى العلويين .
وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة لهم ، ويريد بقاءهم خوفا من نور الدين ، فإنه كان يخافه أن يدخل إلى الديار المصرية يأخذها منه ، فكان يريد [ أن ] يكون العاضد معه ، حتى إذا قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه ، فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره ، وألح عليه بقطع خطبته ، وألزمه إلزاما لا فسحة له في مخالفته ، وكان على الحقيقة نائب نور الدين ، واتفق أن العاضد مرض هذا الوقت مرضا شديدا ، فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه ، فمنهم من أشار به ولم يفكر في المصريين ، ومنهم من خافهم إلا أنه ما يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين .
وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم ، رأيته أنا بالموصل ، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام ، وأن أحدا لا يتجاسر [ أن ] يخطب للعباسيين قال : أنا أبتدئ بالخطبة لهم ، فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ، ودعا للمستضيء بأمر الله ، فلم ينكر أحد ذلك ، فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيء ، ففعلوا ذلك فلم ينتطح فيها عنزان ، وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر ، ففعل ، وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله وأصحابه بقطع الخطبة ، وقالوا : إن عوفي فهو يعلم ، وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته ، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع الخطبة .
ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه ، ولا تغيره الدهور ولا يقرب النقص حماه .
ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ، فظن ذلك خديعة ، فلم يمض إليه ، فلما توفي علم صدقه ، فندم على تخلفه عنه ، وكان يصفه كثيرا بالكرم ، ولين الجانب ، وغلبة الخير على طبعه ، وانقياده ، وكان في نسبه تسعة خطب لهم بالخلافة وهم : الحافظ ، والمستنصر ، والظاهر ، والحاكم ، والعزيز ، والمعز ، والمنصور ، والقائم ، والمهدي ، ومنهم من لم يخطب له بالخلافة : أبوه يوسف بن الحافظ ، وجد أبيه ، وهو الأمير أبو القاسم محمد بن المستنصر .
وبقي من خطب له بالخلافة وليس من آبائه : المستعلي ، والآمر ، والظافر ، والفائز .
وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربعة عشر خليفة منهم بإفريقية : المهدي ، والقائم ، والمنصور ، والمعز ، إلى أن سار إلى مصر ، ومنهم بمصر : المعز المذكور ، وهو أول من خرج إليها من إفريقية ، والعزيز ، والحاكم ، والظاهر ، والمستنصر ، والمستعلي ، والآمر ، والحافظ ، والظافر ، والفائز ، والعاضد ، وجميع مدة ملكهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة من سنة تسع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد مائتان واثنتان وسبعون سنة وشهرا تقريبا .
وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت ، ولم تحل إلا وتمررت ، ولم تصف إلا وتكدرت ، بل صفوها لا يخلو من الكدر ، وكدرها قد يخلو من الصفو ، نسأل الله تعالى أن يقبل بقلوبنا إليه ، ويرينا الدنيا حقيقة ، ويزهدنا فيها ، ويرغبنا في الآخرة ، إنه سميع الدعاء قريب من الإجابة .
وصول الخبر إلى الملك نور الدين بقطع خطبة العاضد ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين بالشام ، أرسل إلى الخليفة يعلمه بذلك مع ابن أبي عصرون شهاب الدين أبي المعالي المطهر ، فزينت بغداد وغلقت الأسواق وعملت القباب وفرح المسلمون فرحا شديدا ، وكانت الخطبة قد قطعت من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي حين تغلب الفاطميون عليها أيام المعز الفاطمي باني القاهرة إلى هذا الأوان ، وذلك مائتا سنة وثمان سنين ، قال ابن الجوزي : وقد ألفت في ذلك كتابا سميته النصر على مصر وأمر بإنشاء بشارة عامة تقرأ في سائر بلاد الإسلام فأنشأت بشارة أولها:
الحمد لله معلي الحق ومعلنه، وموهي الباطل وموهنه... ومنها: ولم يبق بتلك البلاد منبر إلا وقد أقيمت عليه الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، وتمهدت جوامع الجمع، وتهدمت صوامع البدع... إلى أن قال: وطالما مرت عليها الحقب الخوالي، وبقيت مائتين وثماني سنين; ممنوة بدعوة المبطلين، مملوءة بحزب الشياطين، فملكنا الله تلك البلاد، ومكن لنا في الأرض، وأقدرنا على ما كنا نؤمله من إزالة الإلحاد والرفض، وتقدمنا إلى من استنبناه أن يقيم الدعوة العباسية هنالك، ويورد الأدعياء ودعاة الإلحاد بها المهالك).
وللعماد قصيدة في ذلك منها:
قد خطبنا للمستضيء بمصر نائب المصطفى إمام العصر وخذلنا لنصره العضد العا
ضد والقاصر الذي بالقصر وتركنا الدعي يدعو ثبورا
وهو بالذل تحت حجر وحصر
ليهنك يا مولاي فتح تتابعت إليك به خوص الركائب توجف
أخذت به مصرا وقد حال دونها من الشرك بأس في لهى الحق يقذف
فعادت بحمد الله باسم إمامنا تتيه على كل البلاد وتشرف
ولا غرو أن ذلت ليوسف مصره وكانت إلى عليائه تتشوف
يشابهه خلقا وخلقا وعفة وكل عن الرحمن في الأرض يخلف
كشفت بها عن آل هاشم سبة وعارا أبى إلا بسيفك يكشف
وقد ذكرها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين وهي أطول من هذه ، وذكر أن أبا الفضائل الحسين بن محمد بن تركان حاجب ابن هبيرة أنشدها للخليفة المستنجد قبل موته عند تأويل منام رآه بعض الناس للخليفة بهذا المعنى ، وأراد بيوسف الثاني الخليفة المستنجد ، وهكذا ذكر القصيدة في حياة المستنجد ابن الجوزي وغيره ولم يخطب إلا لولده المستضيء فجرى المقال باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله وقد أرسل الخليفة المستضيء بأمر الله إلى الملك نور الدين خلعة سنية سنية ، وكذلك للملك صلاح الدين إلى الديار المصرية ومعها أعلام سود ولواء معقود ، ففرقت على الجوامع بالشام وبمصر ، فلله الحمد على ما منح من العز والنصر . ما وجد في قصور العاضد قال ابن أبي طي في كتابه : ولما تفرغ الملك صلاح الدين الملك الناصر من توطيد المملكة وإقامة الخطبة والتعزية بانقضاء الدولة العبيدية الزاعمة أنها فاطمية ، استعرض حواصل القصرين فوجد فيهما من الحواصل والأمتعة والآلات والثياب والملابس والمفارش شيئا باهرا وأمرا هائلا ; من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر وقضيب زمرد طوله أكثر من شبر وسمكه نحو الإبهام ، وحبل من ياقوت ، ووجد فيه إبريق عظيم من الحجر المانع ، وطبل للقولنج إذا ضرب عليه أحد يحصل له خروج ريح من دبره ، ينصرف عنه ما يجده من القولنج ، فاتفق أن بعض أمراء الأكراد أخذه في يده ولم يدر ما شأنه ، فلما ضرب عليه حبق ، فألقاه من يده على الأرض فكسره فبطل أمره ، وأما القضيب فإن السلطان كسره ثلاث فلق فقسمه بين نسائه ، وقسم بين الأمراء شيئا كثيرا من قطع البلخش والياقوت والذهب والأثاث والأمتعة وغير ذلك ، واستمر البيع فيما بقي هنالك من الأثاث والأمتعة نحوا من عشر سنين وأرسل إلى الخليفة ببغداد من ذلك هدايا عظيمة سنية وكذلك إلى الملك نور الدين أرسل إليه جانبا كبيرا صالحا ، وكان لا يدخر لنفسه شيئا مما يحصل له من الأموال بل كان يعطي ذلك كله لمن حوله من الأمراء والوزراء والملوك والأصحاب ، رحمه الله وكان مما أرسله إلى نور الدين ثلاث قطع بلخش ; زنة الواحدة أحد وثلاثون مثقالا والأخرى ثمانية عشر مثقالا والثالثة دونهما ، مع لآلئ كثيرة وستون ألف دينار ، وعطر لم يسمع بمثله ، ومن ذلك حمارة عتابية وفيل عظيم جدا ، فأرسلت الحمارة إلى الخليفة في جملة هدايا وتحف هائلة ، قال ابن أبي طي : ووجد خزانة كتب ليس في مدائن الإسلام لها نظير ; تشتمل على ألفي ألف مجلد قال : ومن عجائب ذلك أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري ، كذا قال العماد الكاتب كانت الكتب قريبة من مائة وعشرين ألف مجلد ، وقال ابن الأثير كان فيها من الكتب بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد ، وقد تسلمها القاضي الفاضل فأخذ منها شيئا كثيرا مما اختاره وانتخبه ، قال وقسم القصر الشمالي بين الأمراء فسكنوه وأسكن أباه نجم الدين أيوب في قصر عظيم على الخليج ، يقال له : اللؤلؤة الذي فيه بستان الكافوري
وسكن أكثر الأمراء في دور من كان ينتمي إلى الفاطميين ، ولا يلقى أحد من الأتراك أحدا من أولئك الذين كانوا بها إلا شلحوا ثيابه ، ونهبوا داره ، حتى تمزق كثير منهم في البلاد وتفرقوا شذر مذر ، وصاروا أيادي سبا ، وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرا ، فصاروا كأمس الذاهب وكأن لم يغنوا فيها ، وكان أول من ملك منهم المهدي ، وكان من سلمية حدادا اسمه سعيد ، وكان يهوديا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله ، وادعى أنه شريف علوي فاطمي ، وقال : إنه المهدي ، وقد ذكر هذا غير واحد من سادات العلماء الكبراء كالقاضي أبي بكر الباقلاني والشيخ أبي حامد الإسفراييني وغير واحد من سادات الأئمة بعد الأربعمائة ، والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد ، ووازره جماعة من جهلة العباد ، وصارت له دولة وصولة ، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه ، وصار ملكا مطاعا ، يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض
ثم كان من بعده ابنه محمد ، ثم المنصور المعز وهو أول من دخل ديار مصر منهم وبنيت له القاهرة ، ثم العزيز ثم الحاكم ثم الظاهر ثم المستنصر ثم المستعلي ثم الآمر ثم الحافظ ثم الظافر ثم الفائز ثم العاضد ، وهو آخرهم ، فجملتهم أربعة عشر ملكا ، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة ، وكذلك عدة خلفاء بنى أمية أربعة عشر أيضا ; ولكن كانت مدتهم نيفا وتسعين سنة ، وقد نظمت أسماء هؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد في سنة ست وخمسين وستمائة ، وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء ، وأكثرهم مالا وكانوا من أعتى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم ، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات ، وكثر أهل الفساد ، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد ، وكثر بأرض الشام النصيرية والدرزية والحشيشية ، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله ; حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعثليث وصيدا وبيروت وعكا وصفد وطرابلس وأنطاكية وجميع ما والى ذلك إلى بلاد آياس وسيس ، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك ، وقتلوا خلقا لا يعلمهم إلا الله ، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان ما لا يحد ولا يوصف ، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن صانها الله بعنايته وسلمها برعايته ، وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله هذه البلاد كلها إلى أهلها من السادة المسلمين ، ورد الله الكفرة خائبين ، وأركسهم بما كسبوا في الدنيا ويوم الدين ، وقد قال الشاعر المعروف المدعو بعرقلة
أصبح الملك بعد آل علي مشرقا بالملوك من آل شاذي
وغدا الشرق يحسد الغرب للقو م فمصر تزهو على بغداذ
ما حووها إلا بحزم وعزم وصليل الفولاذ في الفولاذ
لا كفرعون والعزيز ومن كا ن بها كالخطيب والأستاذ
وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر :
ألستم مزيلي دولة الكفر من بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل
زنادقة شيعية باطنية مجوس وما في الصالحين لهم أصل
يسرون كفرا يظهرون تشيعا ليستتروا شيئا وعمهم الجهل