الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب




            حصر عز الدين صاحب الموصل الجزيرة

            في سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، في ربيع الأول ، سار أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل إلى جزيرة ابن عمر ، فحصرها ، وكان بها صاحبها سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود ، وهو ابن أخي عز الدين .

            وكان سبب حصره أن سنجر شاه كان كثير الأذى لعمه عز الدين ، والشناعة عليه والمراسلة إلى صلاح الدين في حقه ، تارة يقول إنه يريد قصد بلادك ، وتارة يقول إنه يكاتب أعداءك ويحثهم على قصدك إلى غير ذلك من الأمور المؤذية .

            وعز الدين يصبر منه على ما يكره لأمور : تارة للرحم ، وتارة خوفا من تسليمها إلى صلاح الدين ، فلما كان في السنة الماضية سار صاحبها إلى صلاح الدين ، وهو على عكا ، في جملة من سار من أصحاب الأطراف ، وأقام عنده قليلا ، وطلب دستورا للعود إلى بلده .

            فقال له صلاح الدين : عندنا من أصحاب الأطراف جماعة منهم عماد الدين ، صاحب سنجار وغيرها ، وهو أكبر منك ، ومنهم ابن عمك عز الدين ، وهو أصغر منك ، وغيرهم ، ومتى فتحت هذا الباب اقتدى بك غيرك ، فلم يلتفت إلى قوله ، وأصر على ذلك .

            وكان عند صلاح الدين جماعة من أهل الجزيرة يستغيثون على سنجر شاه لأنه ظلمهم ، وأخذ أموالهم وأملاكهم ، فكان يخافه لهذا .

            ولم يزل في طلب الإذن في العود إلى ليلة الفطر من سنة ست وثمانين [ وخمسمائة ] ، فركب تلك الليلة في السحر وجاء إلى خيمة صلاح الدين وأذن لأصحابه في المسير ، فساروا بالأثقال ، وبقي جريدة ، فلما وصل إلى خيمة صلاح الدين أرسل يطلب الإذن عليه ، وكان صلاح الدين قد بات محموما ، وقد عرق ، فلم يمكن أن يأذن له ، فبقي كذلك مترددا على باب خيمته إلى أن أذن له ، فلما دخل عليه هنأه بالعيد ، وأكب عليه يودعه ، فقال له : ما علمنا بصحة عزمك على الحركة ، فتصبر علينا حتى نرسل ما جرت به العادة ، فما يجوز أن تنصرف عنا ، بعد مقامك عندنا ، على هذا الوجه . فلم يرجع وودعه وانصرف .

            وكان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قد أقبل من بلده حماة في عسكره ، فكتب إليه صلاح الدين يأمره بإعادة سنجر شاه طوعا أو كرها ، فحكى له عن تقي الدين أنه قال : ما رأيت مثل سنجر شاه ، لقيته بعقبة فيق ، فسألته عن سبب انصرافه ، فغالطني .

            فقلت له : سمعت بالحال ، ولا يليق أن تنصرف بغير تشريف السلطان وهديته ، فيضيع تعبك ، وسألته العود فلم يصغ إلي قولي ، فكلمني كأنني بعض [ مماليكه ] ، فلما رأيت ذلك منه قلت له : إن رجعت بالتي هي أحسن ، وإلا أعدتك كارها ، فنزل عن دابته وأخذ ذيلي وقال : قد استجرت بك ، وجعل يبكي ، فعجبت من حماقته أولا ، وذلته ثانيا ، فعاد معي .

            فلما عاد بقي عند صلاح الدين عدة أيام ، وكتب صلاح الدين إلى عز الدين أتابك يأمره بقصد الجزيرة ، ومحاصرتها ، وأخذها ، وأنه يرسل إلى طريق سنجر شاه ليقبض عليه إذا عاد .

            فخاف عز الدين أن صلاح الدين قد فعل ذلك مكيدة ليشنع عليه بنكث العهد ، فلم يفعل شيئا من ذلك بل أرسل إليه يقول : أريد خطك بذلك ومنشورا منك بالجزيرة ، فترددت الرسل في ذلك إلى أن انقضت سنة ست وثمانين [ وخمسمائة ] .

            ودخلت هذه السنة فاستقرت القاعدة بينهما ، فسار عز الدين إلى الجزيرة ، فحصرها أربعة أشهر وأياما آخرها شعبان ، ولم يملكها بل استقرت القاعدة بينه وبين سنجر شاه على يد رسول صلاح الدين ، فإنه كان قد أرسله بعد قصدها يقول : إن صاحب سنجار ، وصاحب إربل وغيرهما قد شفعا في سنجر شاه ، فاستقر الصلح على أن لعز الدين نصف أعمال الجزيرة ، ولسنجر [ شاه ] نصفها ، وتكون الجزيرة بيد سنجر شاه من جملة النصف .

            وعاد عز الدين في شعبان إلى الموصل ، وكان صلاح الدين بعد ذلك يقول : ما قيل لي عن أحد شيء من الشر فرأيته إلا كان دون ما يقال فيه ، إلا سنجر شاه ، فإنه كان يقال لي عنه أشياء استعظمتها ، فلما رأيته صغر في عيني ما قيل فيه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية