الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            وفاة الملك الظاهر صاحب حلب  

            في سنة ثلاث عشرة وستمائة ، في جمادى الآخرة ، توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وهو صاحب مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام ، وكان مرضه إسهالا ، وكان من خيار الملوك وأسدهم سيرة ، ولكن كان فيه عسف ويعاقب على الذنب سريعا شديدا ، وكان يكرم العلماء والشعراء والفقراء ، أقام في الملك ثلاثين سنة ، وحضر كثيرا من الغزوات مع أبيه ، وكان ذكيا ، له رأي جيد ، وعبارة سادة ، وفطنة حسنة ، وعمر أربعا وأربعين سنة ، ولما حضرته الوفاة جعل الملك من بعده لولده الملك العزيز غياث الدين محمد وهو ابن ثلاث سنين ، وقد كان له أولاد كبار ، ولكنه عهد إلى هذا من بينهم لأنه كان من بنت عمه العادل ، وأخواله الأشرف والمعظم والكامل وجده العادل لا ينازعونه ، وهكذا وقع سواء ; بايع له جده العادل وخاله الأشرف صاحب حران والرها وخلاط ، وهم المعظم بنقض ذلك ، فلم يتفق له ذلك . ومن أعجب ما يحكى أن الملك الظاهر ، قبل مرضه ، أرسل رسولا إلى عمه العادل بمصر ، يطلب منه أن يحلف لولده الصغير ، فقال العادل : سبحان الله ! أي حاجة إلى هذه اليمين ؟ الملك الظاهر مثل بعض أولادي . فقال الرسول : قد طلب هذا واختاره ، ولا بد من إجابته إليه . فقال العادل : كم من كبش في المرعى وخروف عند القصاب ، وحلف .

            فاتفق في تلك الأيام أن توفي الملك الظاهر والرسول في الطريق ، ولما عهد الظاهر إلى ولده بالملك جعل أتابكه ومربيه خادما روميا ، اسمه طغرل ، ولقبه شهاب الدين ، وهو من خيار عباد الله ، كثير الصدقة والمعروف .

            ولما توفي الظاهر ، أحسن شهاب الدين هذا السيرة في الناس ، وعدل فيهم ، وأزال كثيرا من السنن الجارية ، وأعاد أملاكا كانت قد أخذت من أربابها ، وقام بتربية الطفل أحسن قيام ، وحفظ بلاده ، واستقامت الأمور بحسن سيرته وعدله ، وملك ما كان يتعذر على الظاهر ملكه ، فمن ذلك تل باشر ، كان الملك الظاهر لا يقدر أن يتعرض إليه ، فلما توفي ملكها كيكاوش ، ملك الروم - كما نذكره إن شاء الله تعالى - انتقلت إلى شهاب الدين ، وما أقبح بالملوك وأبناء الملوك أن يكون هذا الرجل الغريب المنفرد أحسن سيرة ، وأعف عن أموال الرعية ، وأقرب إلى الخير منهم ، ولا أعلم اليوم في ولاة أمور المسلمين أحسن سيرة منه ، فالله يبقيه ، ويدفع عنه ، فلقد بلغني عنه كل حسن وجميل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية