الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر وفاة الخليفة الظاهر بأمر الله .

            في هذه السنة في الرابع عشر من رجب ، توفي الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله ، وقد تقدم نسبه عند وفاة أبيه - رضي الله عنهما ، فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة وعشرين يوما ، وكان نعم الخليفة ، جمع الخشوع مع الخضوع لربه ، والعدل والإحسان إلى رعيته ، وقد تقدم عند ذكر ولايته الخلافة من أفعاله ما فيه كفاية ، ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية ، فرضي الله عنه وأرضاه ، وأحسن منقلبه ومثواه ، فلقد جدد من العدل ما كان دارسا ، وأذكر من الإحسان ما كان منسيا .

            وكان قبل وفاته أخرج توقيعا إلى الوزير بخطه ليقرأه على أرباب الدولة ، وقال الرسول : أمير المؤمنين يقول : ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم ، أو نفذ مناك ، ثم لا يبين له أثر ، بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، فقرءوه ، فإذا في أوله بعد البسملة :

            " اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالا ، ولا إغضاؤنا إغفالا ، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملا ، وقد عفونا لكم ما سلف من إخراب البلاد ، وتشريد الرعايا ، وتقبيح السمعة ، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة ، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكا لأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل ، وأنياب أسد مهيب ، تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد ، وأنتم أمناؤه وثقاته ، فتميلون رأيه إلى هواكم ، وتمرجون باطلكم بحقه ، فيطيعكم وأنتم له عاصون ، ويوافقكم وأنتم له مخالفون ، والآن قد بدل الله - سبحانه - بخوفكم أمنا ، وبفقركم غنى ، وبباطلكم حقا ، ورزقكم سلطانا يقيل العثرة ويقبل المعذرة ، ولا يؤاخذ إلا من أصر ، ولا ينتقم إلا ممن استمر ، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم ، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم ، يخاف الله - تعالى ، فيخوفكم مكره ، ويرجو الله تعالى ، ويرغبكم في طاعته ، فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم ، والسلام " .

            ولم أزل - علم الله سبحانه - مذ ولي الخلافة ، أخاف عليه قصر المدة لخبث الزمان وفساد أهله ، وأقول لكثير من أصدقائنا : وما أخوفني أن تقصر مدة خلافته ; لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته ، فكان كذلك . ووجد في داره رقاع مختومة لم تفتح ، فيها سعايات إليه بسبب أناس كثيرة من الولاة وغيرهم ، لم يفتحها سترا للناس ودرءا عن أعراضهم - رحمه الله - .

            وقد خلف من الأولاد عشرة ذكورا وإناثا ، منهم ابنه الأكبر الذي بويع له بالخلافة من بعده : أبو جعفر المنصور ، ولقب بالمستنصر بالله ، وغسله محمد الخياط الواعظ ، ودفن في دار الخلافة ، ثم نقل إلى الترب من الرصافة ، رحمه الله تعالى . وقد روى الحديث عن والده بالإجازة، وروى عنه: أبو صالح نصر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجيلي.

            ولما توفي.. اتفق خسوف القمر مرتين في السنة، فجاء ابن الأثير نصر الله رسولا من صاحب الموصل برسالة في التعزية; أولها: (ما لليل والنهار لا يعتذران وقد عظم حادثهما، وما للشمس والقمر لا ينكسفان وقد فقد ثالثهما:


            فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة ووحدة من فيها لمصرع واحد

            وهو سيدنا ومولانا الإمام الظاهر أمير المؤمنين، الذي جعلت ولايته رحمة للعالمين...) ، إلى آخر الرسالة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية