استهلت سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وسلطان الشام ومصر الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون ، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين بيبغا ، وأخوه سيف الدين منجك الوزير ، والمشاورون جماعة من المقدمين بديار مصر ، وقضاة مصر وكاتب السر هم الذين كانوا في أول السنة الماضية ، ونائب الشام الأمير سيف الدين أيتمش الناصري ، والقضاة هم القضاة سوى الحنبلي ، فإنه الشيخ جمال الدين يوسف المرداوي ، وكاتب السر ، وشيخ الشيوخ تاج الدين ، وكتاب الدست - هم المتقدمون ، وأضيف إليهم شرف الدين عبد الوهاب ابن القاضي علاء الدين بن شمرنوخ ، والمحتسب القاضي عماد الدين بن الفرفور ، وشاد الأوقاف الشريف ، وناظر الجامع فخر الدين بن العفيف ، وخطيب البلد جمال الدين محمود بن جملة .
وفي يوم السبت عاشر المحرم نودي بالبلد من جهة نائب السلطان عن كتاب جاءه من الديار المصرية أن لا تلبس النساء الأكمام الطوال العراض ، ولا البرد الحرير ، ولا شيئا من اللباسات والثياب الثمينة ، ولا الأقمشة القصار ، وبلغنا أنهم بالديار المصرية شددوا في ذلك جدا ، حتى قيل : إنهم غرقوا بعض النساء بسبب ذلك . فالله أعلم .
وجددت وأكملت في أول هذه السنة دار قرآن قبلي تربة امرأة تنكز ، بمحلة باب الخواصين ، حولها - وكانت صورة مدرسة - الطواشي صفي الدين عنبر ، مولى ابن حمزة ، وهو أحد الكبار الأجواد ، تقبل الله منه .
فتح المدرسة الطيبانية وفي يوم الأحد خامس شهر جمادى الأولى فتحت المدرسة الطيبانية التي كانت دارا للأمير سيف الدين طيبان بالقرب من الشامية الجوانية - بينها وبين أم الصالح - اشتريت من ثلثه الذي وصى به ، وفتحت مدرسة ، وحول لها شباك إلى الطريق في ضفتها القبلية منها ، وحضر الدرس بها في هذا اليوم الشيخ عماد الدين بن شرف الدين ابن عم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بوصية الواقف له بذلك ، وحضر عنده قاضي القضاة السبكي ، والمالكي ، وجماعة من الأعيان ، وأخذ في قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها [ فاطر : 2 ] الآية .
واتفق في ليلة الأحد السادس والعشرين من جمادى الأولى أنه لم يحضر أحد من المؤذنين على السدة في جامع دمشق وقت إقامة الصلاة للمغرب سوى مؤذن واحد ، فانتظر من يقيم معه الصلاة فلم يجئ أحد غيره بمقدار درجة أو أزيد منها ، ثم أقام هو الصلاة وحده ، فلما أحرم الإمام بالصلاة تلاحق المؤذنون في أثناء الصلاة حتى بلغوا دون العشرة ، وهذا أمر غريب من عدة ثلاثين مؤذن أو أكثر ، لم يحضر سوى مؤذن واحد ، وقد أخبر خلق من المشايخ أنهم لم يروا نظير هذه الكائنة .
اجتماع القضاة بمشهد عثمان وفي يوم الاثنين سابع عشر جمادى الآخرة اجتمع القضاة بمشهد عثمان ، وكان القاضي الحنبلي قد حكم في دار المعتمد الملاصقة لمدرسة الشيخ أبي عمر بنقضها ، وكانت وقفا; لتضاف إلى دار القرآن ، ووقف عليها أوقافا للفقراء ، فمنعه الشافعي من ذلك; من أجل أنه يئول أمرها أن تكون دار حديث ، ثم فتحوا بابا آخر ، وقالوا : هذه الدار لم يستهدم جميعها ، وما صادف الحكم محلا; لأن مذهب الإمام أحمد أن الوقف يباع إذا استهدم بالكلية ، ولم يبق ما ينتفع به .
فحكم القاضي الحنفي بإثباتها وقفا كما كانت ، ونفذه الشافعي والمالكي ، وانفصل الحال على ذلك ، وجرت أمور طويلة ، وأشياء عجيبة .
وفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة أصبح بواب المدرسة المستجدة التي يقال لها : الطيبانية - إلى جانب أم الصالح مقتولا مذبوحا ، وقد أخذت من عنده أموال من المدرسة المذكورة ، ولم يطلع على فاعل ذلك ، وكان البواب رجلا صالحا مشكورا ، رحمه الله . وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله ابن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية ، عوضا عن أبيه - رحمه الله - فأفاد ، وأجاد ، وسرد طرفا صالحا في فضل العلم وأهله .
ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها ، ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر ، أنه بطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان ، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ، ولله الحمد والمنة ، وفرح أهل العلم بذلك ، وأهل الديانة ، وشكروا الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنيعة ، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد ، ولا سيما بالجامع الأموي ، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون - خلد الله سلطانه ، وشيد أركانه - وكان الساعي في ذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي - بيض الله وجهه - وقد كان مقيما في هذا الحين بالديار المصرية ، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني ، وغيرهما في إبطال هذه البدعة ، فأنفذ الله ذلك ، ولله الحمد والمنة ، وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة ، وإلى زماننا هذا ، وكم سعى فيها من فقيه ، وقاض ، ومفت ، وعالم ، وعابد ، وأمير ، وزاهد ، ونائب سلطنة ، وغيرهم ، ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا ، والمسئول من الله تعالى إطالة عمر هذا السلطان; ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم من انه إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت ، وكان هذا لا حقيقة له ، ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال .
وفي مستهل شهر رمضان اتفق أمر غريب لم يتفق مثله من مدة متطاولة - فيما يتعلق بالفقهاء والمدارس - وهو أنه كان قد توفي ابن الناصح الحنبلي بالصالحية ، وكان بيده نصف الصاحبية التي للحنابلة بالصالحية ، والنصف الآخر للشيخ شرف الدين ابن القاضي شرف الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بدمشق ، فاستنجز مرسوما بالنصف الآخر ، وكانت بيده ولاية متقدمة من القاضي علاء الدين بن المنجا الحنبلي ، فعارضه في ذلك قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي ، وولي فيها نائبه القاضي شمس الدين بن مفلح ، ودرس بها في صدر هذا اليوم ، فدخل القضاة الثلاثة الباقون ومعهم الشيخ شرف الدين المذكور إلى نائب السلطنة ، وأنهوا إليه صورة الحال ، فرسم له بالتدريس ، فركب القضاة المذكورون وبعض الحجاب في خدمته إلى المدرسة المذكورة ، واجتمع الفضلاء ، والأعيان ، ودرس الشيخ شرف الدين المذكور ، وبث فضائل كثيرة ، وفرح الناس .
توجه نائب الديار المصرية الأمير سيف الدين بيبغا إلى الحج وفي شوال كان في جملة من توجه إلى الحج في هذا العام نائب الديار المصرية ، ومدبر ممالكها الأمير سيف الدين بيبغا الناصري ، ومعه جماعة من الأمراء ، فلما استقل الناس ذاهبين نهض جماعة من الأمراء على أخيه الأمير سيف الدين منجك ، وهو وزير المملكة ، وأستادار الأستادارية ، وهو باب الحوائج في دولتهم ، وإليه يرحل ذوو الحاجات بالذهب والهدايا ، فأمسكوه ، وجاءت البريدية إلى نائب الشام في أواخر هذا الشهر بذلك ، وبعد أيام يسيرة وصل الأمير سيف الدين شيخون - وهو من أكابر الدولة المصرية - تحت الترسيم ، فأدخل إلى قلعة دمشق ، ثم أخذ منها بعد ليلة ، فذهب به إلى الإسكندرية ، فالله أعلم . وجاء البريد بالاحتياط على ديوانه وديوان منجك بالشام ، وأيس من سلامتهما ، وكذلك وردت الأخبار بمسك بيبغا في أثناء الطريق ، وأرسل سيفه إلى السلطان ، وقدم أمير من الديار المصرية فحلف الأمراء بالطاعة إلى السلطان ، وأكد ذلك ، وسار إلى حلب فحلف من بها من الأمراء ثم عاد إلى دمشق ، ثم عاد راجعا إلى الديار المصرية ، وحصل له من الأموال شيء كثير من النواب والأمراء .
وفي يوم الخميس العشرين من ذي القعدة مسك الأميران الكبيران المقدمان الشاميان ، شهاب الدين أحمد بن صبح ، وملك آص ، من دار السعادة بحضرة نائب السلطنة والأمراء ، ورفعا إلى القلعة المنصورة ، سير بهما ماشيين من دار السعادة إلى باب القلعة من ناحية دار الحديث ، وقيدا وسجنا بها . وجاء الخبر بأن السلطان استوزر بالديار المصرية القاضي علم الدين بن زنبور ، وخلع عليه خلعة سنية لم يسمع بمثلها من أعصار متقادمة ، وباشر ، وخلع على الأمراء والمقدمين ، وكذلك خلع على الأمير سيف الدين طشبغا ، وأعيد إلى مباشرة الدويدارية بالديار المصرية ، وجعل مقدما .
وفي أوائل شهر ذي الحجة اشتهر أن نائب صفد شهاب الدين أحمد ابن مشد الشربخاناه طلب إلى الديار المصرية فامتنع من إجابة الداعي ، ونقض العهد ، وحصن قلعتها ، وحصل فيها عددا ومددا ، وادخر أشياء كثيرة بسبب الإقامة بها والامتناع فيها ، فجاءت البريدية إلى نائب دمشق بأن يركب هو وجميع جيش دمشق إليه ، فتجهز الجيش لذلك وتأهبوا ، ثم خرجت الأطلاب على راياتها ، فلما برز منها بعض بدا لنائب السلطنة فردهم ، وكان له خبرة عظيمة ، ثم استقر الحال على تجريد أربعة مقدمين بأربعة آلاف إليه .
وفي يوم الخميس ثاني عشره ، وقعت كائنة غريبة بمنى ، وذلك أنه اختلف الأمراء المصريون والشاميون مع صاحب اليمن الملك المجاهد ، فاقتتلوا قتالا شديدا قريبا من وادي محسر ، ثم انجلت الوقعة عن أسر صاحب اليمن المجاهد ، فحمل مقيدا إلى مصر ، كذلك جاءت بها كتب الحجاج ، وهم أخبروا بذلك .
واشتهر في أواخر ذي الحجة أن نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون شاه الكاملي قد خرج عنها بمماليكه وأصحابه ، فرام الجيش الحلبي رده فلم يستطيعوا ذلك ، وجرح منهم جراحات كثيرة ، وقتل جماعة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، واستمر ذاهبا ، وكان في أمله - فيما ذكر - أن يتلقى سيف الدين بيبغا في أثناء طريق الحجاز فيقدم معه إلى دمشق ، وإن كان نائب دمشق قد اشتغل في حصار صفد أن يهجم عليها بغتة فيأخذها ، فلما سار بمن معه ، وأخذته القطاع من كل جانب ، ونهبت حواصله ، وبقي تجريدة في نفر يسير من مماليكه ، فاجتاز بحماة ليهربه نائبها فأبى عليه ، فلما اجتاز بحمص وطن نفسه على المسير إلى السلطان بنفسه ، فقدم به نائب حمص وتلقاه بعض الحجاب وبعض مقدمي الألوف ، ودخل يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين الشهر ، وهو في أبهة ، فنزل بدار السعادة في بعض قاعات الدويدارية .