الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            استهلت سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وسلطان الشام ومصر الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون ، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين بيبغا ، وأخوه سيف الدين منجك الوزير ، والمشاورون جماعة من المقدمين بديار مصر ، وقضاة مصر وكاتب السر هم الذين كانوا في أول السنة الماضية ، ونائب الشام الأمير سيف الدين أيتمش الناصري ، والقضاة هم القضاة سوى الحنبلي ، فإنه الشيخ جمال الدين يوسف المرداوي ، وكاتب السر ، وشيخ الشيوخ تاج الدين ، وكتاب الدست - هم المتقدمون ، وأضيف إليهم شرف الدين عبد الوهاب ابن القاضي علاء الدين بن شمرنوخ ، والمحتسب القاضي عماد الدين بن الفرفور ، وشاد الأوقاف الشريف ، وناظر الجامع فخر الدين بن العفيف ، وخطيب البلد جمال الدين محمود بن جملة .

            وفي يوم السبت عاشر المحرم نودي بالبلد من جهة نائب السلطان عن كتاب جاءه من الديار المصرية أن لا تلبس النساء الأكمام الطوال العراض ، ولا البرد الحرير ، ولا شيئا من اللباسات والثياب الثمينة ، ولا الأقمشة القصار ، وبلغنا أنهم بالديار المصرية شددوا في ذلك جدا ، حتى قيل : إنهم غرقوا بعض النساء بسبب ذلك . فالله أعلم .

            وجددت وأكملت في أول هذه السنة دار قرآن قبلي تربة امرأة تنكز ، بمحلة باب الخواصين ، حولها - وكانت صورة مدرسة - الطواشي صفي الدين عنبر ، مولى ابن حمزة ، وهو أحد الكبار الأجواد ، تقبل الله منه .

            فتح المدرسة الطيبانية وفي يوم الأحد خامس شهر جمادى الأولى فتحت المدرسة الطيبانية التي كانت دارا للأمير سيف الدين طيبان بالقرب من الشامية الجوانية - بينها وبين أم الصالح - اشتريت من ثلثه الذي وصى به ، وفتحت مدرسة ، وحول لها شباك إلى الطريق في ضفتها القبلية منها ، وحضر الدرس بها في هذا اليوم الشيخ عماد الدين بن شرف الدين ابن عم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بوصية الواقف له بذلك ، وحضر عنده قاضي القضاة السبكي ، والمالكي ، وجماعة من الأعيان ، وأخذ في قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها [ فاطر : 2 ] الآية .

            واتفق في ليلة الأحد السادس والعشرين من جمادى الأولى أنه لم يحضر أحد من المؤذنين على السدة في جامع دمشق وقت إقامة الصلاة للمغرب سوى مؤذن واحد ، فانتظر من يقيم معه الصلاة فلم يجئ أحد غيره بمقدار درجة أو أزيد منها ، ثم أقام هو الصلاة وحده ، فلما أحرم الإمام بالصلاة تلاحق المؤذنون في أثناء الصلاة حتى بلغوا دون العشرة ، وهذا أمر غريب من عدة ثلاثين مؤذن أو أكثر ، لم يحضر سوى مؤذن واحد ، وقد أخبر خلق من المشايخ أنهم لم يروا نظير هذه الكائنة .

            اجتماع القضاة بمشهد عثمان وفي يوم الاثنين سابع عشر جمادى الآخرة اجتمع القضاة بمشهد عثمان ، وكان القاضي الحنبلي قد حكم في دار المعتمد الملاصقة لمدرسة الشيخ أبي عمر بنقضها ، وكانت وقفا; لتضاف إلى دار القرآن ، ووقف عليها أوقافا للفقراء ، فمنعه الشافعي من ذلك; من أجل أنه يئول أمرها أن تكون دار حديث ، ثم فتحوا بابا آخر ، وقالوا : هذه الدار لم يستهدم جميعها ، وما صادف الحكم محلا; لأن مذهب الإمام أحمد أن الوقف يباع إذا استهدم بالكلية ، ولم يبق ما ينتفع به .

            فحكم القاضي الحنفي بإثباتها وقفا كما كانت ، ونفذه الشافعي والمالكي ، وانفصل الحال على ذلك ، وجرت أمور طويلة ، وأشياء عجيبة .

            وفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة أصبح بواب المدرسة المستجدة التي يقال لها : الطيبانية - إلى جانب أم الصالح مقتولا مذبوحا ، وقد أخذت من عنده أموال من المدرسة المذكورة ، ولم يطلع على فاعل ذلك ، وكان البواب رجلا صالحا مشكورا ، رحمه الله . وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله ابن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية ، عوضا عن أبيه - رحمه الله - فأفاد ، وأجاد ، وسرد طرفا صالحا في فضل العلم وأهله .

            ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها ، ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر ، أنه بطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان ، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ، ولله الحمد والمنة ، وفرح أهل العلم بذلك ، وأهل الديانة ، وشكروا الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنيعة ، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد ، ولا سيما بالجامع الأموي ، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون - خلد الله سلطانه ، وشيد أركانه - وكان الساعي في ذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي - بيض الله وجهه - وقد كان مقيما في هذا الحين بالديار المصرية ، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني ، وغيرهما في إبطال هذه البدعة ، فأنفذ الله ذلك ، ولله الحمد والمنة ، وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة ، وإلى زماننا هذا ، وكم سعى فيها من فقيه ، وقاض ، ومفت ، وعالم ، وعابد ، وأمير ، وزاهد ، ونائب سلطنة ، وغيرهم ، ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا ، والمسئول من الله تعالى إطالة عمر هذا السلطان; ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم من انه إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت ، وكان هذا لا حقيقة له ، ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال .

            وفي مستهل شهر رمضان اتفق أمر غريب لم يتفق مثله من مدة متطاولة - فيما يتعلق بالفقهاء والمدارس - وهو أنه كان قد توفي ابن الناصح الحنبلي بالصالحية ، وكان بيده نصف الصاحبية التي للحنابلة بالصالحية ، والنصف الآخر للشيخ شرف الدين ابن القاضي شرف الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بدمشق ، فاستنجز مرسوما بالنصف الآخر ، وكانت بيده ولاية متقدمة من القاضي علاء الدين بن المنجا الحنبلي ، فعارضه في ذلك قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي ، وولي فيها نائبه القاضي شمس الدين بن مفلح ، ودرس بها في صدر هذا اليوم ، فدخل القضاة الثلاثة الباقون ومعهم الشيخ شرف الدين المذكور إلى نائب السلطنة ، وأنهوا إليه صورة الحال ، فرسم له بالتدريس ، فركب القضاة المذكورون وبعض الحجاب في خدمته إلى المدرسة المذكورة ، واجتمع الفضلاء ، والأعيان ، ودرس الشيخ شرف الدين المذكور ، وبث فضائل كثيرة ، وفرح الناس .

            توجه نائب الديار المصرية الأمير سيف الدين بيبغا إلى الحج وفي شوال كان في جملة من توجه إلى الحج في هذا العام نائب الديار المصرية ، ومدبر ممالكها الأمير سيف الدين بيبغا الناصري ، ومعه جماعة من الأمراء ، فلما استقل الناس ذاهبين نهض جماعة من الأمراء على أخيه الأمير سيف الدين منجك ، وهو وزير المملكة ، وأستادار الأستادارية ، وهو باب الحوائج في دولتهم ، وإليه يرحل ذوو الحاجات بالذهب والهدايا ، فأمسكوه ، وجاءت البريدية إلى نائب الشام في أواخر هذا الشهر بذلك ، وبعد أيام يسيرة وصل الأمير سيف الدين شيخون - وهو من أكابر الدولة المصرية - تحت الترسيم ، فأدخل إلى قلعة دمشق ، ثم أخذ منها بعد ليلة ، فذهب به إلى الإسكندرية ، فالله أعلم . وجاء البريد بالاحتياط على ديوانه وديوان منجك بالشام ، وأيس من سلامتهما ، وكذلك وردت الأخبار بمسك بيبغا في أثناء الطريق ، وأرسل سيفه إلى السلطان ، وقدم أمير من الديار المصرية فحلف الأمراء بالطاعة إلى السلطان ، وأكد ذلك ، وسار إلى حلب فحلف من بها من الأمراء ثم عاد إلى دمشق ، ثم عاد راجعا إلى الديار المصرية ، وحصل له من الأموال شيء كثير من النواب والأمراء .

            وفي يوم الخميس العشرين من ذي القعدة مسك الأميران الكبيران المقدمان الشاميان ، شهاب الدين أحمد بن صبح ، وملك آص ، من دار السعادة بحضرة نائب السلطنة والأمراء ، ورفعا إلى القلعة المنصورة ، سير بهما ماشيين من دار السعادة إلى باب القلعة من ناحية دار الحديث ، وقيدا وسجنا بها . وجاء الخبر بأن السلطان استوزر بالديار المصرية القاضي علم الدين بن زنبور ، وخلع عليه خلعة سنية لم يسمع بمثلها من أعصار متقادمة ، وباشر ، وخلع على الأمراء والمقدمين ، وكذلك خلع على الأمير سيف الدين طشبغا ، وأعيد إلى مباشرة الدويدارية بالديار المصرية ، وجعل مقدما .

            وفي أوائل شهر ذي الحجة اشتهر أن نائب صفد شهاب الدين أحمد ابن مشد الشربخاناه طلب إلى الديار المصرية فامتنع من إجابة الداعي ، ونقض العهد ، وحصن قلعتها ، وحصل فيها عددا ومددا ، وادخر أشياء كثيرة بسبب الإقامة بها والامتناع فيها ، فجاءت البريدية إلى نائب دمشق بأن يركب هو وجميع جيش دمشق إليه ، فتجهز الجيش لذلك وتأهبوا ، ثم خرجت الأطلاب على راياتها ، فلما برز منها بعض بدا لنائب السلطنة فردهم ، وكان له خبرة عظيمة ، ثم استقر الحال على تجريد أربعة مقدمين بأربعة آلاف إليه .

            وفي يوم الخميس ثاني عشره ، وقعت كائنة غريبة بمنى ، وذلك أنه اختلف الأمراء المصريون والشاميون مع صاحب اليمن الملك المجاهد ، فاقتتلوا قتالا شديدا قريبا من وادي محسر ، ثم انجلت الوقعة عن أسر صاحب اليمن المجاهد ، فحمل مقيدا إلى مصر ، كذلك جاءت بها كتب الحجاج ، وهم أخبروا بذلك .

            واشتهر في أواخر ذي الحجة أن نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون شاه الكاملي قد خرج عنها بمماليكه وأصحابه ، فرام الجيش الحلبي رده فلم يستطيعوا ذلك ، وجرح منهم جراحات كثيرة ، وقتل جماعة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، واستمر ذاهبا ، وكان في أمله - فيما ذكر - أن يتلقى سيف الدين بيبغا في أثناء طريق الحجاز فيقدم معه إلى دمشق ، وإن كان نائب دمشق قد اشتغل في حصار صفد أن يهجم عليها بغتة فيأخذها ، فلما سار بمن معه ، وأخذته القطاع من كل جانب ، ونهبت حواصله ، وبقي تجريدة في نفر يسير من مماليكه ، فاجتاز بحماة ليهربه نائبها فأبى عليه ، فلما اجتاز بحمص وطن نفسه على المسير إلى السلطان بنفسه ، فقدم به نائب حمص وتلقاه بعض الحجاب وبعض مقدمي الألوف ، ودخل يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين الشهر ، وهو في أبهة ، فنزل بدار السعادة في بعض قاعات الدويدارية .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية