استهلت سنة اثنتين ، وستين وسبعمائة المباركة وسلطان الإسلام بالديار المصرية ، والشامية ، والحرمين الشريفين ، وما يتبع ذلك ويلتحق به - ، ولا نائب له بالديار المصرية ، وقضاته بها هم المذكورون في العام الماضي ، ووزيره القاضي ابن خصيب ، ونائب الشام بدمشق الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي ، والقضاة والخطيب وبقية الأشراف وناظر الجيش والمحتسب هم المذكورون في العام الماضي ، والوزير ابن قروينه ، وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي ، ووكيل بيت المال القاضي صلاح الدين الصفدي ، وهو أحد موقعي الدست الأربعة ، وشاد الأوقاف الأمير ناصر الدين بن فضل الله ، وحاجب الحجاب اليوسفي ، وقد توجه إلى الديار المصرية ليكون بها أمير جندار ، ومتولي البلد ناصر الدين ، ونقيب النقباء ابن الشجاعي . الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي
قدوم الأمير علي نائب حماة إلى دمشق مجتازا إلى الديار المصرية وفي صبيحة يوم الاثنين سادس المحرم قدم الأمير علي نائب حماة منها ، فدخل دمشق مجتازا إلى الديار المصرية ، فنزل في القصر الأبلق ، ثم تحول إلى دار دوادارة يلبغا الذي جدد فيها مساكن كثيرة بالقصاعين ، وتردد الناس إليه للسلام عليه ، فأقام بها إلى صبيحة يوم الخميس تاسعه ، فسار إلى الديار المصرية .
مناظرة في إيمان فرعون وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم أحضر حسن بن الخياط من محلة الشاغور إلى مجلس الحكم المالكي من السجن ، وناظر في إيمان فرعون ، وادعي عليه بدعاوى لانتصاره لفرعون - لعنه الله - وصدق ذلك باعترافه أولا ، ثم بمناظرته في ذلك ثانيا ، وهو شيخ كبير جاهل عامي رابض ، لا يقيم دليلا ولا يحسنه ، وإنما قام في مخيلته شبهة يحتج عليها بقوله إخبارا عن فرعون حين أدركه الغرق ، وأحيط به ، ورأى بأس الله ، وعاين عذابه الأليم ، فقال حين الغرق : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [ يونس : 90 ] . قال الله تعالى : الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية [ يونس : 91 ، 92 ] فاعتقد هذا العامي الرابض أن هذا الإيمان الذي صدر من فرعون - والحالة هذه - ينفعه ، وقد قال تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ غافر : 85 ، 84 ] ، وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ يونس : 97 ، 96 ] ، وقد دعا موسى على فرعون فقال : وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون [ يونس : 89 ، 88 ] الآية ثم حضر في يوم آخر ، وهو مصمم على ضلاله ، فضرب بالسياط ، فأظهر التوبة ، ثم أعيد إلى السجن في زنجير ، ثم أحضر يوما ثالثا ، وهو يستهل بالتوبة فيما يظهر ، فنودي عليه في البلد ثم أطلق .
وفي ليلة الثلاثاء الرابع عشر طلع القمر خاسفا كله ، ولكن كان تحت السحاب ، فلما ظهر وقت العشاء وقد أخذ في الجلاء - صلى الخطيب صلاة الكسوف قبل العشاء ، وقرأ في الأولى بسورة " العنكبوت " ، وفي الأخرى بسورة " يس " ، ثم صعد المنبر فخطب ، ثم نزل بعد العشاء .
وقدمت كتب الحجاج يخبرون بالرخص والأمن ، واستمرت زيادة الماء من أول ذي الحجة وقبلها إلى هذه الأيام من آخر هذا الشهر والأمر على حاله ، وهذا شيء لم يعهد كما أخبر به عامة الشيوخ ، وسببه أنه جاء ماء من بعض الجبال ، انهال في طريق النهر .
ودخل المحمل السلطاني يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من المحرم قبل الظهر ، ومسك أمير الحاج جركتمر المارداني الذي كان مقيما بمكة - شرفها الله تعالى ، وحماها من الأوغاد - فلما عادت التجريدة مع الحجاج إلى دمشق صحبة القراسنقر الذي تسلم الحجيج من مكة من أميرهم في الطلقة ناصر الدين بن قراسنقر المنصوري فمسك من ساعة وصوله إلى دمشق ، فقيد ، وسير إلى الديار المصرية على البريد ، وبلغنا أن الأمير سندا - أمير مكة - غرر بجند السلطان الذين ساروا صحبة ابن قراسنقر ، وكبسهم وقتل من حواشيهم ، وأخذ خيولهم ، وأنهم ساروا جرائد بغير شيء مسلوبين إلى الديار المصرية ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفي أول صفر اشتهر فيه وتواتر خبر الفناء الذي بالديار المصرية بسبب كثرة المستنقعات من فيض النيل عندهم ، على خلاف المعتاد ، فبلغنا أنه يموت من أهلها كل يوم فوق الألفين ، فأما المرض فكثير جدا ، وغلت الأسعار; لقلة من يتعاطى الأشغال ، وغلا السكر والمياه والفاكهة جدا ، وتبرز السلطان إلى ظاهر البلد ، وحصل له تشويش أيضا ، ثم عوفي بحمد الله .
خطبة بنت السلطان وفي ثالث ربيع الآخر قدم من الديار المصرية ابن الحجان رسول صاحب العراق لخطبة بنت السلطان ، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يصدقها مملكة بغداد ، وأعطاهم مستحقا سلطانيا ، وأطلق لهم من التحف والخلع والأموال شيئا كثيرا ، ورسم للرسول بمشترى قرية من بيت المال لتوقف على الخانقاه التي يريد أن يتخذها بدمشق قريبا من الطواويس ، وقد خرج لتلقيه نائب الغيبة ، وهو حاجب الحجاب والدولة والأعيان .
وقرأت في يوم الأحد سابع شهر ربيع الآخر كتابا ورد من حلب بخط الفقيه العدل شمس الدين العراقي من أهلها ، ذكر فيه أنه كان في حضرة نائب السلطنة في دار العدل يوم الاثنين السابع عشر من ربيع الأول ، وأنه أحضر رجل قد ولد له ولد عاش ساعة ومات ، وأحضره معه وشاهده الحاضرون ، وشاهده كاتب الكتاب ، فإذا هو شكل سوي ، له على كل كتف رأس بوجه مستدير ، والوجهان إلى ناحية واحدة ، فسبحان الخلاق العليم .
وبلغنا أنه في هذا الشهر سقطت المنارة التي بنيت للمدرسة السلطانية بمصر ، وكانت مستجدة على صفة غريبة; وذلك أنها منارتان على أصل واحد فوق قبو الباب الذي للمدرسة المذكورة ، فلما سقطت أهلكت خلقا كثيرا من الصناع بالمدرسة ، والمارة ، والصبيان الذين في مكتب المدرسة ، ولم ينج من الصبيان فيما ذكر شيء سوى ستة ، وكان جملة من هلك بسببها نحو ثلاثمائة نفس ، وقيل : أكثر ، وقيل : أقل ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر إلى الغيضة; لإصلاحها وإزالة ما فيها من الأشجار المؤذية والدغل يوم الاثنين التاسع والعشرين من الشهر ، وكان سلخه ، وخرج معه جميع الجيش من الأمراء وأصحابه وأجناد الحلقة برمتهم ، لم يتأخر منهم أحد ، وكلهم يعملون فيها بأنفسهم وغلمانهم ، وأحضر إليهم خلق من فلاحي المرج والغوطة وغير ذلك ، ورجع يوم السبت خامس الشهر الداخل ، وقد نظفوها من الدغل والقش .
واتفقت كائنة غريبة لبعض السؤال ، وهو أنه اجتمع جماعة منهم قبل الفجر ليأخذوا خبزا من صدقة تربة امرأة ملك الأمراء تنكز عند باب الخواصين ، فتضاربوا فيما بينهم ، فعمدوا إلى رجل منهم فخنقوه خنقا شديدا ، وأخذوا منه جرابا فيه نحو من أربعة آلاف درهم وشيء من الذهب ، وذهبوا على حمية ، وأفاق هو من الغشي فلم يجدهم ، واشتكى أمره إلى متولي البلد ، فلم يظفر بهم إلى الآن . وقد أخبرني الذي أخذوا منه; أنهم أخذوا منه ثلاثة آلاف درهم معاملة ، وألف درهم بندقية ، ودينارين وزنهما ثلاثة دنانير - كذا قال لي إن كان صادقا .
وفي صبيحة يوم السبت خامس جمادى الأولى طلب قاضي القضاة شرف الدين الحنفي الشيخ علي بن البنا ، وقد كان يتكلم في الجامع الأموي على العوام وهو جالس على الأرض بشيء من الوعظيات وما أشبهها من صدره ، فكأنه تعرض في غضون كلامه لأبي حنيفة - رحمه الله - فأحضر فاستتيب من ذلك ، ومنعه قاضي القضاة شرف الدين الكفري من الكلام على الناس ، وسجنه ، وبلغني أنه حكم بإسلامه ، وأطلقه من يومه . وهذا المذكور ابن البنا عنده زهادة وتقشف ، وهو مصري يسمع الحديث ويقرؤه ، ويتكلم بشيء من الوعظيات ، والرقائق ، وضرب أمثال ، وقد مال إليه كثير من العوام ، واستحلوه ، وكلامه قريب إلى مفهومهم ، وربما أضحك في كلامه وحاضرته ، وهو مطبوع قريب إلى الفهم ، ولكنه أشار فيما ذكر عنه في شطحته إلى بعض الأشياء التي لا تنبغي أن تذكر ، والله الموفق ، ثم إنه جلس للناس في يوم الثلاثاء ثامنه ، فتكلم على عادته ، فتطلبه القاضي المذكور ، فيقال : إن المذكور تعنت . انتهى ، والله أعلم . وقدم نائب طرابلس المعزول عليلا ، والأمير سيف الدين أسندمر الذي كان نائب دمشق ، وكانا مقيمين بطرابلس جميعا - في صبيحة يوم السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى ، فدخلا دار السعادة ، فلم يحتفل بهما نائب السلطنة .
تجديد الرواق غربي باب الناطفانيين وتكامل في هذا الشهر تجديد الرواق غربي باب الناطفانيين إصلاحا لدرابزيناته ، وتبييضا لجدرانه ومحراب فيه ، وجعل له شبابيك في الدرابزينات ، ووقف فيه قراءة قرآن بعد المغرب ، وذكروا أن شخصا رأى مناما فقصه على نائب السلطنة فأمر بإصلاحه . وفيه نهض بناء المدرسة التي إلى جانب هذا المكان من الشباك ، وقد كان أسسها أولا نجم الدين غلام ابن هلال ، فلما صودر أخذت منه ، وجعلت مضافة إلى السلطان ، فبنوا فوق الأساسات ، وجعلوا لها خمسة شبابيك من شرقها ، وبابا قبليا ، ومحرابا ، وبركة ، وعراقية ، وجعلوا حائطها بالحجارة البيض والسود ، وكملوا عاليها بالآجر ، وجاءت في غاية الحسن ، وقد كان السلطان الناصر حسن قد رسم بأن تجعل مكتبا للأيتام ، فلم يتم أمرها حتى قتل ، كما ذكرنا .
واشتهر في هذا الشهر أن بقرة كانت تجيء من ناحية باب الجابية تقصد جراء لكلبة ، قد ماتت أمهم ، وهي في ناحية كنيسة مريم في خرابة ، فتجيء إليهم فتنسطح على شقها فترضع أولئك الجراء منها ، تكرر هذا منها مرارا ، وأخبرني المحدث المفيد التقي نور الدين أحمد بن المقصوص بمشاهدته ذلك .
الأمر بتستر النساء وفي العشر الأوسط من جمادى الآخرة نادى مناد من جهة نائب السلطنة - حرسه الله تعالى - في البلد أن النساء يمشين في تستر ، ويلبسن أزرهن إلى أسفل من سائر ثيابهن ، ولا يظهرن زينة ولا يدا ، فامتثلن ذلك ، ولله الحمد والمنة . وقدم أمير العرب حيار بن مهنا في أبهة هائلة ، وتلقاه نائب السلطنة إلى أثناء الطريق ، وهو قاصد إلى الأبواب الشريفة .
وفي أواخر رجب قدم الأمير سيف الدين تمر المهمندار من نيابة غزة حاجب الحجاب بدمشق ، وعلى مقدمة رأس الميمنة ، وأطلق نائب السلطنة مكوسات كثيرة ، وأبطل ما كان يؤخذ من المحتسبين زيادة على نصف درهم ، وما يؤخذ من أجرة عدة الموتى كل ميت بثلاثة ونصف ، وجعل العدة التي في القيسارية للحاجة مسبلة لا تنحجر على أحد في تغسيل ميت ، وهذا حسن جدا ، وكذلك منع التحجر في بيع الثلج المختص به ، وبيع مثل بقية الناس من غير طرخان فرخص على الناس في هذه السنة جدا ، حتى قيل : إنه بيع القنطار بعشرة وما حولها .
وفي شهر شعبان قدم الأمير حيار بن مهنا من الديار المصرية فنزل القصر الأبلق ، وتلقاه نائب السلطنة ، وأكرم كل منهما الآخر ، ثم ترحل بعد أيام قلائل ، وقدم الأمراء الذين كانوا بحبس الإسكندرية في صبيحة يوم الجمعة سابعه ، وفيهم الأمير شهاب الدين بن صبح ، وسيف الدين طيدمر الحاجب ، وطنيرق مقدم ألف ، وعمر شاه ، هذا ونائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر - أعزه الله - يبطل المكوسات شيئا بعد شيء مما فيه مضرة بالمسلمين ، وبلغني عنه أن من عزمه أن يبطل جميع ذلك إن أمكنه الله من ذلك ، آمين ، انتهى . إبطال المكس الذي يؤخذ من الملح وفي صبيحة يوم الأحد سادس عشر شعبان أبطل ملك الأمراء المكس الذي يؤخذ من الملح ، وأبطل مكس الأفراح ، وأبطل أن تغني امرأة لرجال ، ولا رجل لنساء ، وهذا في غاية ما يكون من المصلحة العظيمة الشامل نفعها . وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره شرع نائب السلطنة سيف الدين بيدمر في نصب مجانيق على أعالي بروج القلعة ، فنصبت أربع مجانيق من جهاتها الأربع ، وبلغني أنه نصب آخر في أرضها عند البحرة ، ثم نصب آخر وآخر ، حتى شاهد الناس ستة مجانيق على ظهور الأبرجة ، وأخرج منها القلعية ، وأسكنها خلقا من الأكراد والتركمان وغيرهم من الرجال الأنجاد ، ونقل إليها من الغلات ، والأطعمة ، والأمتعة ، وآلات الحرب شيئا كثيرا ، واستعد للحصار إن حوصر فيها بما يحتاج إليه من جميع ما يرصد من القلاع بما يفوت الحصر . ولما شاهد أهل البساتين المجانيق قد نصبت في القلعة انزعجوا ، وانتقل أكثرهم من البساتين إلى البلد ، ومنهم من أودع عند أهل البلد نفائس أموالهم وأمتعتهم ، والعاقبة إلى خير إن شاء الله تعالى .
وجاءتني فتيا صورتها : ما يقول السادة العلماء في ملك اشترى غلاما فأحسن إليه ، وأعطاه ، وقدمه ثم إنه وثب على سيده فقتله ، وأخذ ماله ، ومنع ورثته منه ، وتصرف في المملكة ، وأرسل إلى بعض نواب البلاد ليقدم عليه ليقتله ، فهل له الامتناع منه ؟ وهل إذا قاتل دون نفسه وماله حتى يقتل يكون شهيدا أم لا ؟ وهل يثاب الساعي في خلاص حق ورثة الملك المقتول من القصاص والمال ؟ أفتونا مأجورين .
فقلت للذي جاءني بها من جهة الأمير : إن كان مراده خلاص ذمته فيما بينه وبين الله تعالى فهو أعلم بنيته في الذي يقصده ، ولا يسعى في تحصيل حق معين إذا ترتب على ذلك مفسدة راجحة على ذلك ، فيؤخر الطلب إلى وقت إمكانه بطريقه ، وإن كان مراده بهذا الاستفتاء أن يتقوى بها في جمع الدولة والأمراء عليه فلا بد أن يكتب عليها كبار القضاة والمشايخ أولا ، ثم بعد ذلك بقية المفتين بطريقه ، والله الموفق للصواب .
هذا وقد اجتمع على الأمير نائب السلطنة جميع أمراء الشام ، حتى قيل : إن فيهم من نواب السلطنة سبعة عشر أميرا ، وكلهم يحضر معه المواكب الهائلة ، وينزلون معه إلى دار السعادة ، ويمد لهم الأسمطة ويأكل معهم ، وجاء الخبر بأن الأمير منجك الطرخاني المقيم ببيت المقدس قد أظهر الموافقة لنائب السلطنة ، فأرسل إليه جبريل ، ثم عاد فأخبر بالموافقة ، وأنه قد استحوذ على غزة ، ونائبه ، وقد جمع ، وحشد ، واستخدم طوائف ، ومسك على الجادة ، فلا يدع أحدا يمر إلا أن يفتش ما معه لاحتمال إيصال كتب من هاهنا إلى هاهنا ، ومع هذا كله فالمعدلة ثابتة جدا ، والأمن حاصل هناك ، فلا يخاف أحد ، وكذلك بدمشق وضواحيها ، لا يهاج أحد ، ولا يتعدى أحد على أحد ، ولا ينهب لأحد شيء ، ولله الحمد ، غير أن بعض أهل البساتين قد انزعجوا وتوهموا ، ونزلوا المدينة ، وتحولوا ، وأودع بعضهم نفائس ما عندهم ، وأقاموا بها على وجل; وذلك لما رأوا المجانيق الستة منصوبة على رءوس قلال الأبراج التي للقلعة ، ثم أحضر نائب السلطنة القضاة الأربعة ، والأمراء كلهم ، وكتبوا مكتوبا سطره بينهم كاتب السر : أنهم راضون بالسلطان ، كارهون ليلبغا ، وأنهم لا يريدونه ، ولا يوافقون على تصرفه في المملكة ، وشهد عليهم القضاة بذلك ، وأرسلوا المكتوب مع مملوك للأمير طيبغا الطويل نظير يلبغا بالديار المصرية ، وأرسل منجك إلى نائب السلطنة يستحثه في الحضور إليه في الجيش ليناجزوا المصريين ، فعين نائب الشام من الجيش طائفة يبرزون بين يديه ، وخرجت التجريدة ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان صحبة أسندمر الذي كان نائب الشام مددا للأمير منجك في ألفين ، ويذكر الناس أن نائب السلطنة بمن بقي من الجيش يذهبون على إثرهم ، ثم خرجت أخرى بعدها ثلاثة آلاف ليلة الثلاثاء ثاني من رمضان كما سيأتي .
وفاة الشيخ الحافظ علاء الدين مغلطاي المصري وتوفي الشيخ الحافظ علاء الدين مغلطاي المصري بها في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة ، ودفن من الغد بالزيدانية ، وقد كتب الكثير ، وصنف ، وجمع ، وكانت عنده كتب كثيرة جدا ، رحمه الله .
وفي مستهل رمضان أحضر جماعة من التجار إلى دار العدل ظاهر باب النصر ليباع شيء عليهم من القند ، والفولاذ ، والزجاج مما هو في حواصل يلبغا ، فامتنعوا من ذلك خوفا من استعادة ثمنه منهم على تقدير ، فضرب بعضهم ، منهم شهاب الدين بن الصواف - بين يدي الحاجب ، وشاد الدواوين ، ثم أفرج عنهم في اليوم الثاني ، ففرج الله بذلك .
وخرجت التجريدة ليلة الثلاثاء بعد العشاء صحبة ثلاثة مقدمين; وهم عراق ، ثم ابن صبح ، ثم ابن طرغية ، ودخل نائب طرابلس الأمير سيف الدين تومان إلى دمشق صبيحة يوم الأربعاء عاشر رمضان ، فتلقاه ملك الأمراء سيف الدين بيدمر إلى القصر ، ودخلا معا في أبهة عظيمة ، فنزل تومان في القصر الأبلق ، وبرز من معه من الجيوش إلى عند قبة يلبغا ، هذا والقلعة منصوب عليها المجانيق ، وقد ملئت حرسا شديدا ، ونائب السلطنة في غاية التحفظ . ولما أصبح يوم الخميس صمم تومان تمر على ملك الأمراء في الرحيل إلى غزة ليتوافى هو وبقية من تقدمه من الجيش الشامي ، ومنجك ومن معه هنالك ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، فأجابه إلى ذلك ، وأمر بتقدم السبق بين يديه في هذا اليوم ، فخرج السبق ، وأغلقت القلعة بابها المسلوك الذي عند دار الحديث ، فاستوحش الناس من ذلك ، والله يحسن العاقبة . ورسم في يوم الثلاثاء الأول من شوال على الرئيس أمين الدين بن القلانسي كاتب السر ، وطلب منه ألف ألف درهم ، وسلم إلى الأمير زين الدين زبالة نائب القلعة ، وقد أعيد إليها ، وأعطي تقدمة ابن قراسنقر ، وأمره أن يعاقبه إلى أن يزن هذا المبلغ . وصلى السلطان ، وأمراؤه بالميدان الأخضر صلاة العيد; ضرب له خام عظيم ، وصلى به خطيبا القاضي تاج الدين المناوي الشافعي قاضي العساكر المنصورة للشافعية ، ودخل الأمراء مع السلطان للقلعة من باب المدرسة ، ومد لهم سماطا هائلا أكلوا منه ، ثم رجعوا إلى دورهم وقصورهم ، وحمل الجتر في هذا اليوم على رأس السلطان الأمير علي نائب دمشق ، وخلع عليه خلعة هائلة . القبض على الأمير تومان تمر نائب طرابلس وفي هذا اليوم مسك الأمير تومان تمر الذي كان نائب طرابلس ، ثم قدم على بيدمر فكان معه ثم قفل إلى المصريين ، واعتذر إليهم ، فعذروه فيما يبدو للناس ، ودخل وهو حامل الجتر على رأس السلطان يوم الدخول ، ثم ولوه نيابة حمص فصغروه ، وحقروه ، ثم لما استمر ذاهبا إليها فكان عند القابون أرسلوا إليه فأمسكوه وردوه ، وطلب منه المائة ألف التي كان قبضها من بيدمر ، ثم ردوه إلى نيابة حمص .
وفي يوم الخميس اشتهر الخبر بأن طائفة من الجيش بمصر من طواشية وخاصكية ملكوا عليهم حسين بن الناصر ، ثم اختلفوا فيما بينهم واقتتلوا ، وأن الأمر قد انفصل ، ورد حسين للمحل الذي كان معتقلا فيه ، وأطفأ الله شر هذه الطائفة ، ولله الحمد . وفي آخر هذا اليوم لبس القاضي ناصر الدين بن يعقوب خلعة كتابة السر الشريفية ، والمدرستين ، ومشيخة الشيوخ - عوضا عن الرئيس علاء الدين بن القلانسي ، عزل وصودر ، وراح الناس لتهنئته بالعود إلى وظيفته كما كان .
القبض على جماعة من الأمراء الشاميين وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث شوال مسك جماعة من الأمراء الشاميين; منهم الحاجبان صلاح الدين وحسام الدين والمهمندار ابن أخي الحاجب الكبير تمر ، وناصر الدين ابن الملك صلاح الدين بن الكامل ، وابن حمزة ، والطرخاني ، واثنان أخوان; وهما طيبغا زفر ، وبلجك ، كلهم طبلخاناه ، وأخرجوا خيروتمر حاجب الحجاب ، وكذلك الحجوبية أيضا ، وأعطوا إقطاعه لابن القشتمري الذي كان نائب حلب ، وأعطوا الحجوبية لقماري أحد أمراء مصر .
وفي يوم الثلاثاء سابع شوال مسك ستة عشر أميرا من أمراء العرب بالقلعة المنصورة; منهم عمر بن موسى بن مهنا الملقب بالمصمع ، الذي كان أمير العرب في وقت ، ومعيقل بن فضل بن مهنا ، وآخرون ، وذكروا أن سبب ذلك أن طائفة من آل فضل عرضوا للأمير سيف الدين الأحمدي الذي استنابوه على حلب وأعمالها ، وأخذوا منه شيئا من بعض الأمتعة ، وكادت الحرب تقع بينهم . وفي ليلة الخميس بعد المغرب حمل تسعة عشر أميرا من الأتراك والعرب على البريد مقيدين في الأغلال أيضا إلى الديار المصرية ، منهم بيدمر ، ومنجك ، وأسندمر ، وجبريل ، وصلاح الدين الحاجب ، وحسام الدين أيضا ، وبلجك ، وغيرهم ، ومعهم نحو من مائتي فارس ملبسين بالسلاح متوكلين بحفظهم ، وساروا بهم نحو الديار المصرية ، وأمروا جماعة من البطالين ، منهم أولاد الأقوش . وأطلق الرئيس أمين الدين بن القلانسي من المصادرة والترسيم بالقلعة ، بعد ما وزن بعض ما طلب منه ، وصار إلى منزله ، وهنأه الناس . وفي يوم السبت حادي عشر شوال خلع على الشيخ علاء الدين الأنصاري بإعادة الحسبة إليه ، وعزل عماد الدين بن الشيرجي ، وخرج المحمل يوم الخميس سادس عشر شوال على العادة ، والأمير مصطفى البيزي .
وفاة أربعة أمراء بدمشق ، وتمر المهمندار وقد كان مقدم ألف ، وحاجب الحجاب وعمل نيابة غزة في وقت ، ثم تعصب عليه المصريون ، فعزلوه عن الإمرة ، وكان مريضا ، فاستمر مريضا ، إلى أن توفي يوم الجمعة ، ودفن يوم السبت بتربته التي أنشأها بالصوفية ، لكنه لم يدفن فيها بل على بابها ، كأنه تورع أو ندم على بنائها فوق قبور المسلمين . وتوفي يوم الخميس ويوم الجمعة أربعة أمراء بدمشق ، وهم قشتمرزفر ، وطيبغا الفيل ، ونوروز أحد مقدمي الألوف
وفاة الأمير ناصر الدين بن الأقوش وتوفي الأمير ناصر الدين بن الأقوش يوم الاثنين العشرين من شوال ، ودفن بالقبيبات ، وقد ناب ببعلبك وبحمص ، ثم قطع خبزه هو وأخوه كجكن ، ونفوا عن البلد إلى بلدان شتى ، ثم رضي عنهم الأمير يلبغا ، وأعاد عليهم أخبازا بطبلخاناه ، فما لبث ناصر الدين إلا يسيرا حتى توفي إلى رحمة الله تعالى ، وقد أثر آثارا حسنة كثيرة منها عند عقبة الرمانة خان مليح نافع ، وله ببعلبك جامع وحمام وخان ، وغير ذلك ، وله من العمر ست وخمسون سنة .
وفي يوم الأحد السادس والعشرين منه درس القاضي نور الدين محمد ابن قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء الشافعي بالمدرسة الأتابكية ، نزل له عنها والده بتوقيع سلطاني ، وحضر عنده القضاة ، والأعيان ، وأخذ في قوله تعالى : الحج أشهر معلومات [ البقرة : 197 ] ، وفي هذا اليوم درس القاضي نجم الدين أحمد بن عثمان النابلسي الشافعي - المعروف بابن الجابي - بالمدرسة العصرونية ، استنزل له عنها القاضي أمين الدين بن القلانسي في مصادراته . وفي صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من شوال درس القاضي ولي الدين عبد الله ابن القاضي بهاء الدين أبي البقاء بالمدرستين الرواحية ثم القيمرية; نزل له عنهما والده المذكور بتوقيع سلطاني ، وحضر عنده فيهما القضاة والأعيان .
وفي صبيحة يوم الخميس سلخ شوال شهر الشيخ أسد ابن الشيخ الكردي على جمل ، وطيف به في حواضر البلد ، ونودي عليه : هذا جزاء من يخامر على السلطان ، ويفسد نواب السلطان ، ثم أنزل عن الجمل ، وحمل على حمار ، وطيف به في البلد ، ونودي عليه بذلك ، ثم ألزم السجن ، وطلب منه مال جزيل ، وقد كان المذكور من أعوان بيدمر - المتقدم ذكره - وأنصاره ، وكان هو المتسلم للقلعة في أيامه .
وفي صبيحة يوم الاثنين حادي عشر ذي القعدة خلع على قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح بقضاء العسكر الذي كان متوفرا عن علاء الدين بن شمرنوخ ، وهنأه الناس بذلك ، وركب البغلة بالزناري مضافا إلى ما بيده من نيابة الحكم ، والتدريس . وفي يوم الاثنين ثامن عشره أعيد تدريس الركنية بالصالحية إلى قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي; استرجعها بمرسوم شريف سلطاني من يد القاضي عماد الدين بن العز ، وخلع على الكفري ، وذهب الناس إليه للتهنئة بالمدرسة المذكورة .
وقوع فتن بين الفلاحين بناحية عجلون وفي شهر ذي الحجة اشتهر وقوع فتن بين الفلاحين بناحية عجلون ، وأنهم اقتتلوا فقتل من الفريقين اليمني - والقيسي - طائفة ، وأن عين حينا التي هي شرقي عجلون دمرت وخربت ، وقطع أشجارها ، ودمرت بالكلية . وفي صبيحة يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة لم تفتح أبواب دمشق إلى ما بعد طلوع الشمس ، فأنكر الناس ذلك ، وكان سببه الاحتياط على أمير يقال له : كسغا ، كان يريد الهرب إلى بلاد الشرق ، فاحتيط عليه حتى أمسكوه .
وفي ليلة الأربعاء السادس والعشرين من ذي الحجة قدم الأمير سيف الدين طاز من القدس فنزل بالقصر الأبلق ، وقد عمي من الكحل حين كان مسجونا بالإسكندرية ، فأطلق كما ذكرنا ، ونزل ببيت المقدس مدة ، ثم جاءه تقليد بأنه يكون طرخانا ينزل حيث شاء من بلاد السلطان ، غير أنه لا يدخل ديار مصر ، فجاء فنزل بالقصر الأبلق ، وجاء الناس إليه على طبقاتهم; نائب السلطنة فمن دونه يسلمون عليه ، وهو لا يبصر شيئا ، وهو على عزم أن يشتري أو يستكري له دارا بدمشق يسكنها .