الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            سلطنة الملك المنصور صلاح الدين محمد ابن الملك المظفر حاجي  ابن الملك الناصر بن محمد ابن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي ، وزوال دولة عمه الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون

            لما كثر طمعه ، وتزايد شرهه ، وساءت سيرته إلى رعيته ، وضيق عليهم في معايشهم وأكسابهم ، وبنى البنايات الجبارة التي لا يحتاج إلى كثير منها ، واستحوذ على كثير من أملاك بيت المال وأمواله ، واشترى منه قرايا كثيرة ، ومدنا أيضا ، ورساتيق ، وشق ذلك على الناس جدا ، ولم يتجاسر أحد من القضاة ، ولا الولاة ، ولا العلماء ، ولا الصلحاء على الإنكار عليه ، ولا الهجوم عليه ، ولا النصيحة له بما هو مصلحة له وللمسلمين - انتقم الله منه ، فسلط عليه جنده ، وقلب قلوب رعيته من الخاصة والعامة عليه; لما قطع من أرزاقهم ، ومعاليمهم ، وجوامكهم ، وأخبازهم ، وأضاف ذلك جميعه إلى خاصته ، فقلت الأمراء ، والأجناد ، والمقدمون ، والكتاب ، والموقعون ، ومس الناس الضرر ، وتعدى على جوامكهم ، وأولادهم ، ومن يلوذ بهم ، فعند ذلك قدر الله تعالى هلاكه على يد أحد خواصه ، وهو الأمير الكبير سيف الدين يلبغا الخاصكي ، وذلك أنه أراد السلطان مسكه فاعتد لذلك ، وركب السلطان لمسكه فركب هو في جيش ، وتلاقيا في ظاهر القاهرة حيث كانوا نزولا في الوطاقات ، فهزم السلطان بعد كل حساب ، وقد قتل من الفريقين طائفة ، ولجأ السلطان إلى قلعة الجبل : كلا لا وزر [ القيامة : 11 ] ، ولن ينجي حذر من قدر ، فبات الجيش بكماله محدقا بالقلعة ، فهم بالهرب في الليل على هجن كان قد اعتدها ليهرب إلى الكرك ، فلما برز مسك ، واعتقل ، ودخل به إلى دار يلبغا الخاصكي المذكور ، وكان آخر العهد به ، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى من هذه السنة ، وصارت الدولة والمشورة متناهية إلى الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي ، فاتفقت الآراء ، واجتمعت الكلمة ، وانعقدت البيعة للملك المنصور صلاح الدين محمد ابن المظفر حاجي ، وخطب الخطباء ، وضربت السكة ، وسارت البريدية للبيعة باسمه الشريف ، هذا وهو ابن ثنتي عشرة ، وقيل : أربع عشرة ، ومن الناس من قال : ست عشرة . ورسم بعود الأمور إلى ما كانت عليه في أيام والده الناصر محمد بن قلاوون ، وأن يبطل جميع ما كان أخذه الملك الناصر حسن ، وأن تعاد المرتبات والجوامك التي كان قطعها ، وأمر بإحضار طاز ، وطشتمر القاسمي من سجن إسكندرية إلى بين يديه ليكونا أتابكا ، وجاء الخبر إلى دمشق صحبة الأمير سيف الدين بزلار شاد الشربخاناه أحد أمراء الطبلخاناه بمصر صبيحة يوم الأربعاء سادس عشر الشهر ، فضربت البشائر بالقلعة ، وطبلخاناه الأمراء على أبوابهم ، وزين البلد بكماله ، وأخذت البيعة له صبيحة يومئذ بدار السعادة ، وخلع على نائب السلطنة تشريف هائل ، وفرح أكثر الأمراء والجند والعامة ، ولله الأمر وله الحكم ، قال تعالى : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء [ آل عمران : 26 ] الآية .

            ووجد على حجر بالحميرية فقرئت للمأمون فإذا مكتوب :


            ما اختلف الليل والنهار ولا دارت نجوم السماء في الفلك     إلا لنقل النعيم من ملك
            قد زال سلطانه إلى ملك     وملك ذي العرش دائم أبدا
            ليس بفان ولا بمشترك

            وروي عن سليمان بن عبد الملك بن مروان أنه خرج يوما لصلاة الجمعة ، وكان سوي الخلق حسنه ، وقد لبس حلة خضراء ، وهو شاب ممتلئ شبابا ، وينظر في أعطافه ولباسه فأعجبه ذلك من نفسه ، فلما بلغ إلى صرحة الدار تلقته جنية في صورة جارية من حظاياه ، فأنشدته :


            أنت نعم المتاع لو كنت تبقى     غير أن لا حياة للإنسان
            ليس فيما علمت فيك عي     ب يذكر غير أنك فاني

            فصعد المنبر الذي في جامع دمشق ، وخطب الناس ، وكان جهوري الصوت ، يسمع أهل الجامع وهو قائم على المنبر ، فضعف صوته قليلا قليلا حتى لم يسمعه أهل المقصورة ، فلما فرغ من الصلاة حمل إلى منزله ، فاستحضر تلك الجارية التي تبدت تلك الجنية على صورتها ، وقال : كيف أنشدتيني تينك البيتين ؟ فقالت : ما أنشدتك شيئا ، فقال : الله أكبر ، نعيت والله إلي نفسي ، فأوصى أن يكون الخليفة من بعده ابن عمه عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية