قوله عز وجل:
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون
قوله تعالى: وآخرون عطف على قوله أولا: وآخرون ، وقرأ ، نافع ، والأعرج وابن نصاح، ، وأبو جعفر ، وطلحة ، وأهل والحسن الحجاز: "مرجون" من أرجى يرجى دون همز، وقرأ ، أبو عمرو ، وأهل وعاصم البصرة: "مرجؤون" من أرجأ يرجئ بالهمز، واختلف عن ، وهما لغتان، ومعناهما [ ص: 403 ] التأخير، ومنه المرجئة لأنهم أخروا الأعمال، أي أخروا حكمها ومرتبتها، وأنكر عاصم ترك الهمز في معنى التأخير، وليس كما قال. المبرد
والمراد بهذه الآية -فيما قال رضي الله عنهما، ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة - الثلاثة الذين خلفوا، وهم وابن إسحاق هلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع، ، ونزلت هذه الآية قبل التوبة عليهم، وقيل: إنها نزلت في غيرهم من المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار، وعلى هذا يكون وكعب بن مالك والذين اتخذوا بإسقاط واو العطف بدلا من آخرون أو خبر ابتداء تقديره: هم الذين، فالآية -على هذا- فيها ترج لهم واستدعاء إلى الإيمان والتوبة، و عليم معناه: بمن يهدي إلى الرشد، و حكيم فيما ينفذه من تنعيم من شاء وتعذيب من شاء لا رب غيره ولا معبود سواه.
وقرأ ، وعوام القراء، والناس في كل قطر إلا عاصم بالمدينة: "والذين اتخذوا" ، وقرأ أهل المدينة، ، نافع ، وأبو جعفر وشيبة ، وغيرهم "الذين اتخذوا" بإسقاط الواو، وكذلك هي في مصحفهم، قاله ، وقال أبو حاتم : هي قراءة الزهراوي ، وهي في مصاحف أهل ابن عامر الشام بغير واو. فأما من قرأ بالواو فذلك عطف على قوله تعالى: "وآخرون" أي: ومنهم الذين اتخذوا، وأما من قرأ بإسقاطها فرفع الذين بالابتداء. واختلف في الخبر فقيل: الخبر: "لا تقم فيه أبدا"، قاله ، ويتجه بإضمار إما في أول الآية وإما في آخرها بتقدير: "لا تقم في مسجدهم"، وقيل: الخبر: "لا يزال بنيانهم"، قاله الكسائي النحاس ، وهذا أفصح، وقد ذكرت كون "الذين" بدلا من "آخرون"، آنفا، وقال المهدوي: الخبر محذوف تقديره: "معذبون" أو نحوه.
وأما الجماعة المرادة بـ "الذين اتخذوا" فهم منافقو بني غنم بن عوف ، وبني سالم بن عوف ، وأسند عن الطبري عن ابن إسحاق وغيره أنه قال: الزهري أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان -بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار- وقد كان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد [ ص: 404 ] بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما أقبل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، فانطلقا مسرعين ففعلا، وحرقاه بنار في سعف. وذكر النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لهدمه وتحريقه ، عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي . وكان بانوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب ، ومتعب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وجارية بن عمرو ، وابناه: مجمع بن جارية وهو كان إمامهم، وحلف -رضي الله عنه- في خلافته أنه لم يشعر بأمرهم، لعمر بن الخطاب وزيد بن جارية، ونبتل بن الحارث ، وبحزج من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت. وبحزج منهم هو الذي حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت إلا الحسنى والتوسعة علينا وعلى من عجز أو ضعف عن المسير إلى مسجد قباء.
وقرأ : "ما أردنا إلا الحسنى" . ابن أبي عبلة
والآية تقتضي شرح شيء من أمر هذه المساجد، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وقت الهجرة بنى مسجدا في بني عمرو بن عوف ، وهو مسجد قباء، وقيل: [ ص: 405 ] وجده مبنيا قبل وروده، وقيل: وجده موضع صلاة فبناه، وتشرف القوم بذلك فحسدهم من حينئذ رجال من بني عمهم من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف ، فكان فيهم نفاق، وكان موضع مسجد قباء مربطا لحمار امرأة من الأنصار اسمها لية، فكان المنافقون يقولون: والله لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية ونحو هذا من الأقوال، وكان أبو عامر عبد عمرو المعروف بالراهب منهم، وكانت أمه من الروم، فكان يتعبد في الجاهلية فسمي الراهب، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، وكان سيدا نظيرا وقريبا من عبد الله بن أبي ابن سلول، فلما جاء الله تبارك وتعالى بالإسلام نافق ولم يزل مجاهرا بذلك فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، ثم خرج في جماعة من المنافقين فحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب، فلما ردهم الله بغيظهم أقام أبو عامر بمكة مظهرا لعداوته، فلما فتح الله مكة هرب إلى الطائف. فلما أسلم أهل الطائف خرج هاربا إلى الشام يريد قيصر مستنصرا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى قومه المنافقين منهم أن ابنوا مسجدا مقاومة لمسجد قباء وتحقيرا له، فإني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمدا وأصحابه من المدينة فبنوه وقالوا: سيأتي أبو عامر ويصلي فيه ويتخذه متعبدا ويسر به، ثم إن أبا عامر هلك عند قيصر. ونزل القرآن في أمر مسجد الضرار، فذلك قوله تعالى: وإرصادا لمن حارب الله ورسوله يعني أبا عامر وقولهم: "سيأتي أبو عامر "، وقرأ : "للذين حاربوا الله" وقوله: الأعمش ضرارا أي داعية للتضار بين جماعتين، فلذلك قال: "ضرارا" وهو في الأصل مصدر ما يكون من اثنين وإن كان المصدر الملازم لذلك مفاعلة كما قال ، ونصب "ضرار" وما بعده على المصدر في موضع الحال، ويجوز أن يكون على المفعول لأجله، وقوله: سيبويه بين المؤمنين يريد: بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد قباء، فإن من جاوز مسجدهم كانوا يصرفونه إليه وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان. وقيل: أراد بقوله: [ ص: 406 ] بين المؤمنين جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بحسب الخلاف في المسجد المؤسس على التقوى، وسيأتي ذلك، قال : يلزم من هذا ألا يصلى عليه في كنيسة ونحوها لأنها بنيت على شر من هذا كله، وقد قيل في هذا: النقاش لا تقم فيه أبدا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا تفقه غير قوي.
والإرصاد: الإعداد والتهيئة، والذي حارب الله ورسوله: هو أبو عامر الفاسق، وقوله: من قبل يريد: في غزوة الأحزاب وغيرها، والحالف المراد في قوله: وليحلفن هو بحزج ومن حلف من أصحابه، وكسرت الألف من قوله: "إنهم لكاذبون" لأن الشهادة في معنى القول.
وأسند عن الطبري شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له: إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني ضرارا ورياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار، وروي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات.