الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون

تقدم في "الأعراف" الكلام على لفظة نوح، والمقام: وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه، والمقام أيضا بضم الميم: إقامته ساكنا في موضع أو بلد، ولم يقرأ هنا بضم الميم، وتذكيره: وعظه وزجره، والمعنى: يا قوم، إن كنتم تستضعفون حالي ودعائي لكم إلى الله فإني لا أبالي عنكم لتوكلي على الله تعالى، فافعلوا ما قدرتم عليه.

وقرأ السبعة، وجمهور الناس: الحسن، وابن أبي إسحاق ، وعيسى : "فأجمعوا" من أجمع الرجل على شيء إذا عزم عليه، ومنه قول الشاعر:


....................... ... هل أغدون يوما وأمري مجمع؟



ومنه قول الآخر:


أجمعوا أمرهم بليل فلما ...     أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء



[ ص: 504 ] ومنه الحديث: "ما لم يجمع مكثا"، ومنه قول أبي ذؤيب :


ذكر الورود بها فأجمع...     شوقا وأقبل حينه يتتبع



وقرأ نافع -فيما روى عنه الأصمعي - وهي قراءة الأعرج ، وابن أبي رجاء ، وعاصم الجحدري، والزهري ، والأعمش : "فاجمعوا" بفتح الميم من جمع إذا ضم شيئا إلى شيء. و"أمركم" يريد به: قدرتكم وحياتكم، ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى: فتولى فرعون فجمع كيده ، وكل هؤلاء نصب "الشركاء" ، ونصب قوله: "شركاءكم" يحتمل أن يعطف على قوله: "أمركم"، وهذا على قراءة "فاجمعوا" بالوصل، وأما من قرأ: "فأجمعوا" بقطع الألف فنصب "الشركاء" بفعل مضمر كأنه قال: "وادعوا شركاءكم"، فهو من باب قول الشاعر:


شراب ألبان     وتمر وأقط



ومن قول الآخر:


ورأيت زوجك في الوغى ...     متقلدا سيفا ورمحا



[ ص: 505 ] ومن قول الآخر:


علفتها تبنا وماء باردا ...     حتى شتت همالة عيناها



وفي مصحف أبي بن كعب : "فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم" ، قال أبو علي : وقد ينتصب "الشركاء" بواو "مع" ، كما قالوا: "جاء البريد والطيالسة"، وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وسلام، ويعقوب، وأبو عمرو فيما روي عنه: "وشركاؤكم" بالرفع عطفا على الضمير في "فأجمعوا" ، وعطف على الضمير قبل تأكيده لأن الكاف والميم في "أمركم" ناب مناب "أنتم" المؤكد للضمير، ولطول الكلام أيضا، وهذه العبارة أحسن من أن يطول الكلام بغير ضمير، ويصح أن يرتفع بالابتداء والخبر مقدر، تقديره: "وشركاؤهم فليجمعوا"، وقرأت فرقة: "وشركائكم" بالخفض على العطف على الضمير في قوله تعالى: أمركم ، والتقدير: "وأمر شركائكم" فهو كقول الشاعر :


أكل امرئ تحسبين امرأ ...     ونار توقد بالليل نارا؟



أي: وكل نار، والمراد بالشركاء في هذه الآية الأنداد من دون الله، فأضافهم إليهم إذ يجعلونهم شركاء بزعمهم.

وقوله تعالى: ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، أي ملتبسا مشكلا، ومنه قوله: صلى الله عليه وسلم في [ ص: 506 ] الهلال: "فإن غم عليكم"، ومنه قول الراجز:


بل لو شهدت الناس إذ تكموا ...     بغمة لو لم تفرج غموا



وقوله: ثم اقضوا إلي معناه: أنفذوا قضاءكم نحوي، وقرأ السدي بن ينعم: "ثم أفضوا" بالفاء وقطع الألف، ومعناه: أسرعوا، وهو مأخوذ من الأرض الفضاء، أي:اسلكوا إلي بكيدكم واخرجوا معي وبي إلى سعة، وقوله: ولا تنظرون أي: ولا تؤخرون، والنظرة: التأخير.

التالي السابق


الخدمات العلمية