الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وفي النهاية يجيء ذلك التقرير الشامل عن موقف أنبياء بني إسرائيل من كفار بني إسرائيل ، على مدى التاريخ ; ممثلا في موقف داود وموقف عيسى - عليهما السلام - وكلاهما لعن كفار بني إسرائيل ، واستجاب الله له . بسبب عصيانهم وعدوانهم ، وبسبب انحلالهم الاجتماعي ، وسكوتهم على المنكر يفشو فيهم فلا يتناهون عنه ; وبسبب توليهم الكافرين ; فباءوا بالسخط واللعنة ، وكتب عليهم الخلود في العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا. لبئس ما قدمت لهم أنفسهم: أن سخط الله عليهم، وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء. ولكن كثيرا منهم فاسقون . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يبدو أن تاريخ بني إسرائيل في الكفر والمعصية واللعنة عريق . وأن أنبياءهم الذين أرسلوا لهدايتهم وإنقاذهم ، هم في النهاية الذين تولوا لعنتهم وطردهم من هداية الله ; فسمع الله دعاءهم وكتب السخط واللعنة على بني إسرائيل .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين كفروا من بني إسرائيل هم الذين حرفوا كتبهم المنزلة ; وهم الذين لم يتحاكموا إلى شريعة الله - كما مر في المواضع القرآنية المتعددة في هذه السورة وفي السور غيرها - وهم الذين نقضوا عهد الله معهم لينصرن كل رسول ويعزرونه ويتبعونه :

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . .

                                                                                                                                                                                                                                      فهي المعصية والاعتداء ; يتمثلان في كل صورهما الاعتقادية والسلوكية على السواء . وقد حفل تاريخ بني إسرائيل بالمعصية والاعتداء . . كما فصل الله في كتابه الكريم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالا فردية في مجتمع بني إسرائيل . ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها ; وأن يسكت عنها المجتمع . ولا يقابلها بالتناهي والنكير :

                                                                                                                                                                                                                                      كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون! . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين . فالأرض لا تخلو من الشر ; [ ص: 948 ] والمجتمع لا يخلو من الشذوذ ، ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفا مصطلحا عليه ; وأن يصبحا سهلا يجترئ عليه كل من يهم به . . وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات ; ويصبح الجزاء على الشر رادعا وجماعيا تقف الجماعة كلها دونه ; وتوقع العقوبة الرادعة عليه . . عندئذ ينزوي الشر ، وتنحسر دوافعه . وعندئذ يتماسك المجتمع فلا تنحل عراه . وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها المجتمع ، ولا يسمح لها بالسيطرة وعندئذ لا تشيع الفاحشة . ولا تصبح هي الطابع العام !

                                                                                                                                                                                                                                      والمنهج الإسلامي - بعرضه لهذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي - في صورة الكراهية والتنديد ، يريد للجماعة المسلمة أن يكون لها كيان حي متجمع صلب ; يدفع كل بادرة من بوادر العدوان والمعصية . قبل أن تصبح ظاهرة عامة ; ويريد للمجتمع الإسلامي أن يكون صلبا في الحق ، وحساسا تجاه الاعتداء عليه ; ويريد للقائمين على الدين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها ، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء . . ولا يخافوا لومة لائم . سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم ; أو الأغنياء المتسلطين بالمال ; أو الأشرار المتسلطين بالأذى ; أو الجماهير المتسلطة بالهوى . فمنهج الله هو منهج الله ، والخارجون عليه علوا أم سفلوا سواء .

                                                                                                                                                                                                                                      والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة ; فيجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شر إذا هي سكتت عليه ; ويجعل الأمانة في عنق كل فرد ، بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة .

                                                                                                                                                                                                                                      روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

                                                                                                                                                                                                                                      لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم ، وواكلوهم وشاربوهم . فضرب الله بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم . . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - متكئا فجلس ، فقال : "ولا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى أبو داود - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك . ثم يلقاه من الغد ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده . فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " ، ثم قال : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم - إلى قوله : فاسقون ثم قال : "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا - أو تقصرنه على الحق قصرا .

                                                                                                                                                                                                                                      فليس هو مجرد الأمر والنهي ، ثم تنتهي المسألة ، إنما هو الإصرار ، والمقاطعة ، والكف بالقوة عن الشر والفساد والمعصية والاعتداء .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى مسلم - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه . . وذلك أضعف الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم - وهم قادرون على أن ينكروه - فلا ينكرونه . فإذا فعلوا عذب الله العامة والخاصة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 949 ] وروى أبو داود والترمذي - بإسناده - عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر . .

                                                                                                                                                                                                                                      وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى ; لأن هذا التماسك في كيان الجماعة بحيث لا يقول أحد فيها - وهو يرى المنكر يقع من غيره - : وأنا مالي ؟ ! وهذه الحمية ضد الفساد في المجتمع ، بحيث لا يقول أحد - وهو يرى الفساد يسري ويشيع - وماذا أصنع والتعرض للفساد يلحق بي الأذى ؟ ! وهذه الغيرة على حرمات الله ، والشعور بالتكليف المباشر بصيانتها والدفع عنها للنجاة من الله . . هذا كله هو قوام الجماعة المسلمة الذي لا قيام لها إلا به . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح بالله ; ومعرفة تكاليف هذا الإيمان . وإلى الإدراك الصحيح لمنهج الله ; ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة . وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة ، والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله . . فالمجتمع المسلم الذي يستمد قانونه من شريعة الله ; ويقيم حياته كلها على منهجه ; هو المجتمع الذي يسمح للمسلم أن يزاول حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; بحيث لا يصبح هذا عملا فرديا ضائعا في الخضم ; أو يجعله غير ممكن أصلا في كثير من الأحيان ! كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرجاء الأرض ; والتي تقيم حياتها على تقاليد ومصطلحات اجتماعية تسترذل تدخل أحد في شأن أحد ; وتعتبر الفسق والفجور والمعصية "مسائل شخصية " ! ليس لأحد أن يتدخل في شأنها . . كما تجعل من الظلم والبطش والاعتداء والجور سيفا مصلتا من الإرهاب يلجم الأفواه ، ويعقد الألسنة ، وينكل بمن يقول كلمة حق أو معروف في وجه الطغيان . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الجهد الأصيل ، والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولا إلى إقامة المجتمع الخير . . والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله . . قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية ، شخصية وفردية ; عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله ; وحين تطغى الجاهلية ، وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله ; وحين يتخذ له شريعة غير شريعة الله . فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس ، وأن تنبت من الجذور ; وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض . . وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا يرتكن إلى أساس .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا يحتاج إلى إيمان . وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة . فالإيمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله ; والثقة كلها بنصرته للخير - مهما طال الطريق - واحتساب الأجر عنده ، فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض ، ولا تقديرا من المجتمع الضال ، ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان !

                                                                                                                                                                                                                                      إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم . مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله ، ويتحاكم إلى شريعته ، مهما وجد فيه من طغيان الحكم ، في بعض الأحيان ، ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان . . وهكذا نجد في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر . . فهو "إمام " ولا يكون إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله ; وبتحكيم شريعته . فالذي لا يحكم شريعة الله لا يقال له : "إمام " إنما يقول عنه الله - سبحانه - ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . . [ ص: 950 ] فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله ، فالمنكر الأكبر فيها والأهم ، هو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات . . هو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . . وهذا المنكر الكبير الأساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار ، قبل الدخول في المنكرات الجزئية ، التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر ، وفرع عنه ، وعرض له . .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه لا جدوى من ضياع الجهد . . جهد الخيرين الصالحين من الناس . . في مقاومة المنكرات الجزئية ، الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول . . منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية ، ورفض ألوهية الله ، برفض شريعته للحياة . . لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال .

                                                                                                                                                                                                                                      على أنه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات ؟ بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم : إن هذا منكر فاجتنبوه ؟ أنت تقول : إن هذا منكر ; فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون لك : كلا ! ليس هذا منكرا . لقد كان منكرا في الزمان الخالي ! والدنيا "تتطور " ، والمجتمع "يتقدم " وتختلف الاعتبارات !

                                                                                                                                                                                                                                      فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال ، ولا بد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر . فمن أين نستمد هذه القيم ؟ ومن أين نأتي بهذا الميزان ؟

                                                                                                                                                                                                                                      من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم - وهي متقلبة لا تثبت على حال ؟ - إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها ، وإلى خضم لا معالم فيه !

                                                                                                                                                                                                                                      فلا بد ابتداء من إقامة الميزان . . ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء . .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الميزان الثابت هو ميزان الله . .

                                                                                                                                                                                                                                      فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف - ابتداء - بسلطان الله ؟ ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله ؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله ؟

                                                                                                                                                                                                                                      ألا يكون جهدا ضائعا ، وعبثا هازلا ، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، في جزئيات وجانبيات من شؤون الحياة ، تختلف عليها الموازين والقيم ، وتتعارض فيها الآراء والأهواء ؟ !

                                                                                                                                                                                                                                      إنه لا بد من الاتفاق مبدئيا على حكم ، وعلى ميزان ، وعلى سلطان ، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء . .

                                                                                                                                                                                                                                      لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة . والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . . وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان ! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن ، ولتحشد كلها في جبهة واحدة ، لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان !

                                                                                                                                                                                                                                      وإن الإنسان ليرثي أحيانا ويعجب لأناس طيبين ، ينفقون جهدهم في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " في الفروع ; بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم ; ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مقطوع !

                                                                                                                                                                                                                                      فما غناء أن تنهى الناس عن أكل الحرام مثلا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا ; فيستحيل ماله كله حراما ; ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال . . لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ؟ ! [ ص: 951 ] وما غناء أن تنهى الناس عن الفسق مثلا في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة - إلا في حالة الإكراه - ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله . . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ؟ !

                                                                                                                                                                                                                                      وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر ، ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام . وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله . لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله ؟ !

                                                                                                                                                                                                                                      وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين ; في مجتمع لا يعترف بسلطان الله ; ولا يعبد فيه الله . إنما هو يتخذ أربابا من دونه ينزلون له شريعته وقانونه ; ونظامه وأوضاعه ، وقيمه وموازينه . والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله . إنما هما وأهل مجتمعهما طرا في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين ; ويضعون لهم القيم والموازين ؟ !

                                                                                                                                                                                                                                      ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال ؟ ما غناء النهي عن هذه الكبائر - فضلا عن أن يكون النهي عن الصغائر - والكبيرة الكبرى لا نهي عنها . . كبيرة الكفر بالله ، برفض منهجه للحياة ؟ !

                                                                                                                                                                                                                                      إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق ، مما ينفق فيه هؤلاء "الطيبون " جهدهم وطاقتهم واهتمامهم . . إنه - في هذه المرحلة - ليس أمر تتبع الفرعيات مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله . فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه . فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة ; تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع ; واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة . . فكل جهد في الفروع ضائع ; وكل محاولة في الفروع عبث . . والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات . .

                                                                                                                                                                                                                                      والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه . وذلك أضعف الإيمان . .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم ; ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم ; فيبقى أضعف الإيمان وهو تغييره بقلوبهم ; وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه ، إن هم كانوا حقا على الإسلام !

                                                                                                                                                                                                                                      وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر - كما يلوح في بادئ الأمر - وتعبير الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته . فإنكار المنكر بالقلب ، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر . . إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له ، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به . . وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر ، ولإقامة الوضع "المعروف " في أول فرصة تسنح ، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة . . وهذا كله عمل إيجابي في التغيير . . وهو على كل حال أضعف الإيمان . فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان ! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع ، ولأن له ضغطا - قد يكون ساحقا - فهو الخروج من آخر حلقة ، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان ! هذ وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل :

                                                                                                                                                                                                                                      لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. لبئس ما كانوا يفعلون! . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية