ثم يمضي السياق إلى نهاية هذا المقطع في الحديث عن بني إسرائيل ، وهو نهاية هذا الجزء . فيصف حالهم  [ ص: 952 ] على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي حالهم في كل زمان وفي كل مكان ، فهم يتولون الذين كفروا ، ويتناصرون معهم ضد الجماعة المسلمة . وعلة ذلك - مع أنهم أهل كتاب - أنهم لم يؤمنوا بالله والنبي وأنهم لم يدخلوا في دين الله الأخير . . فهم غير مؤمنين . ولو كانوا مؤمنين ما تولوا الكافرين : 
ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا. لبئس ما قدمت لهم أنفسهم: أن سخط الله عليهم، وفي العذاب هم خالدون  ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون   . . 
وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينطبق على حالهم اليوم وغدا ، وفي كل حين . كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم . . مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن ، وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آن . . 
لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين ; ويؤلبونهم على المسلمين ، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا   . . كما حكى عنهم القرآن الكريم . وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب ، ومن قبلها ومن بعدها كذلك إلى اللحظة الحاضرة . . وما قامت إسرائيل  في أرض فلسطين  أخيرا إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين ! 
فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب ، فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين ! وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك ، كلما كانت المعركة مع المسلمين ! حتى و "المسلمون " لا يمثلون الإسلام في شيء . إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين ! ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين ; ومن ينتمون إليه ، ولو كانوا في انتمائهم مدعين ! وصدق الله العظيم : ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا   .. 
لبئس ما قدمت لهم أنفسهم: أن سخط الله عليهم، وفي العذاب هم خالدون   . . 
فهذه هي الحصيلة التي قدمتها لهم أنفسهم . . إنها سخط الله عليهم . وخلودهم في العذاب . فما أبأسها من حصيلة ! وما أبأسها من تقدمة تقدمها لهم أنفسهم ; ويا لها من ثمرة مرة . ثمرة توليهم للكافرين ! 
فمن منا يسمع قول الله سبحانه عن القوم ؟ فلا يتخذ من عند نفسه مقررات لم يأذن بها الله : في الولاء والتناصر بين أهل هذا الدين ; وأعدائه الذين يتولون الكافرين ! 
وما الدافع ؟ ما دافع القوم لتولي الذين كفروا ؟ إنه عدم الإيمان بالله والنبي : 
ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء. ولكن كثيرا منهم فاسقون   . . 
هذه هي العلة . . إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي . . إن كثرتهم فاسقة . . إنهم يتجانسون - إذن - مع الذين كفروا في الشعور والوجهة ; فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين . . 
وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة : 
الحقيقة الأولى : أن أهل الكتاب جميعا - إلا القلة التي آمنت بمحمد  صلى الله عليه وسلم - غير مؤمنين بالله . لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير . ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده . بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء   . وهو تقرير من الله - سبحانه - لا يقبل التأويل . مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله . . وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم .  [ ص: 953 ] والحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب جميعا مدعوون إلى الدخول في دين الله ، على لسان محمد   - صلى الله عليه وسلم - فإن استجابوا فقد أمنوا ، وأصبحوا على دين الله . وإن تولوا فهم كما وصفهم الله . 
والحقيقة الثالثة : أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين  ، في شأن من الشؤون . لأن كل شأن من شؤون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين . 
ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك ; وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام ; وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون ; وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك . والوفاء لهم - ما وفوا - بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين . . وهم - في أية حال - لا يكرهون على شيء في أمر الدين . . 
هذا هو الإسلام . . في وضوحه ونصاعته . وفي بره وسماحته . . 
والله يقول الحق . وهو يهدي السبيل . 
انتهى الجزء السادس ويليه الجزء السابع مبدوءا بقوله تعالى : . . لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا   . 
				
						
						
