الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 954 ] [ ص: 955 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      بقية سورة المائدة وأوائل سورة الأنعام

                                                                                                                                                                                                                                      الجزء السابع [ ص: 956 ] [ ص: 957 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      يتألف هذا الجزء من بقية سورة المائدة - التي وردت أوائلها وسبق الحديث عنها في الجزء السادس - ومن أوائل سورة الأنعام إلى قوله تعالى : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة.. وسنرجئ الحديث عن هذا الشطر الثاني من هذا الجزء إلى موضعه - حين نستعرض سورة الأنعام - ونمضي هنا في الحديث عن الشطر الأول المكون من بقية سورة المائدة .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد جاءت في التعريف بهذه السورة - في الجزء السادس - هذه العبارات :

                                                                                                                                                                                                                                      "نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينشئ به أمة ; وليقيم به دولة ، ولينظم به مجتمعا ; وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا ; وليجدد به روابط ذلك المجتمع فيما بينه ، وروابط تلك الدولة مع سائر الدول ، وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم . . وليربط ذلك كله برباط قوي واحد ، يجمع متفرقه ; ويؤلف أجزاءه ; ويشدها كلها إلى مصدر واحد ، وإلى سلطان واحد ، وإلى جهة واحدة . . وذلك هو "الدين " كما هو في حقيقته عند الله وكما عرفه المسلمون . . أيام أن كانوا "مسلمين " !

                                                                                                                                                                                                                                      "ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى ; الرابط بينها هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه : إنشاء أمة ، وإقامة دولة ، وتنظيم مجتمع ، على أساس من عقيدة خاصة ، وتصور معين ، وبناء جديد ، الأصل فيه إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان ، وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك " .

                                                                                                                                                                                                                                      "وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم إلى جانب تعريف الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها ، وحقيقة دورها ، وطبيعة طريقها ، وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين . . إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم ، وروح الجماعة المسلمة وتربطها بربها . . إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها ; والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها . . إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح ، وألوانا من الأعمال والمسالك . . كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة ، تمثل معنى "الدين " كما أراده الله ، وكما فهمه المسلمون . . أيام أن كانوا "مسلمين " .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى ضوء هذا التصوير العام لطبيعة السورة ومحتوياتها ، نستطيع أن نمضي مع بقيتها في هذا الجزء . فنجدها تضم بقية من موضوعات السورة التي أشرنا إليها ، والتي سبق بعضها في الجزء السادس . [ ص: 958 ] نجد بقية عن المعسكرات المتعددة التي تواجه الأمة المسلمة في المدينة - ومن عجب أنها هي التي تواجه حركات البعث الإسلامي دائما - والعداء الذي تنطوي عليه صدورها ; مع التفاوت في مواقف بعض هذه المعسكرات ; وميل فئات منها للهدى كبعض فئات النصارى التي استجابت لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولانت قلوبها لما سمعت من الهدى ، وفازت بثواب الله وجنات تجري من تحتها الأنهار .

                                                                                                                                                                                                                                      ونجد بقية من الحديث عن حق التشريع بالحل والحرمة ; والنهي عن الاعتداء بالتحريم والتحليل بغير سلطان من الله ; وتذكير الذين آمنوا بتقوى الله في هذا الأمر الذي يتعلق به الإيمان والكفر بعد ما أعلنوا الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                      يتلو ذلك بقية من الأحكام التشريعية في الإيمان ، والخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، والصيد في حالة الإحرام ، وحرمة الكعبة والأشهر الحرم والهدي والقلائد . . مع التنبيه المتكرر إلى وجوب الالتزام والطاعة لما يشرعه الله - سبحانه - وما يأمر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - والنهي والتحذير من المخالفة ، والتهديد بالعذاب الأليم ، والانتقام من الله ، والتذكير بالله الذي إليه يحشرون .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بقية في تربية الجماعة المسلمة . بتقرير القيم التي تتعامل بها ، فلا تعجبها كثرة الخبيث ولكن يعجبها الطيب الزكي . وفي أدبها الواجب مع ربها ومع رسولها . فلا تسأله عما لم يبده ولا تطلب تفصيل ما أجمله .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إبطال ما تبقى من تقاليد الجاهلية وشرائعها المتخلفة من شركها ووثنيتها ، في بعض أنواع الأنعام والذبائح : كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة والحامي . . مع تقرير المصدر الوحيد الصحيح للتشريع في أمور الحياة كلها ; ورد الأمر في هذا إلى الله وحده ، لا إلى عرف البشر واصطلاحهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك مع تنبيه الأمة المسلمة إلى تميزها بذاتها ، وتضامنها فيما بينها ، وانفصالها عن سواها ; وتبعتها الخاصة ، وبراءتها من تبعات أهل الضلال ; ورد أمر جزائها وجزاء غيرها إلى الله وحده في دار الجزاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وينتهي الحديث عن قضية التشريع كلها بحكم الإشهاد على الوصية في حالة السفر والبعد عن الحاضرة ; وتنظيم الإسلام لمثل هذه الأقضية في مجتمع يجاهد في سبيل الله ، ويضرب في الأرض كذلك للتجارة ابتغاء فضل الله . مع ربط التشريع بمخافة الله في الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      أما بقية السورة فتتضمن بقية في تصحيح عقيدة النصارى - من أهل الكتاب - ومن أجل هذا يعاد عرض طرف من قصة مريم وعيسى ; والمعجزات التي أجراها الله على يديه ; ومسألة المائدة التي طلبها الحواريون . . ثم تعرض قضية ألوهية عيسى وأمه ودعاوى النصارى فيها ; حيث يكذب عيسى - عليه السلام - أن يكون هو قد ادعاها ، ويبرئ نفسه من هذه الفرية أمام ربه في مشهد مرهوب من مشاهد القيامة ; ويدع أمر قومه لله ربه وربهم على ملأ من البشرية بأجمعها ، والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - كلهم شهود . .

                                                                                                                                                                                                                                      وتختم السورة بتقرير ملكية الله للسماوات والأرض وما فيهن ، وقدرته التي لا حدود لها ولا قيود : لله ملك السماوات والأرض وما فيهن، وهو على كل شيء قدير . .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا الاستعراض السريع لبقية محتويات السورة ، يتجلى التماسك في بنائها حسب منهجها في تناول هذه المحتويات وهو المنهج الذي أشرنا إليه في مطالع السورة ونقلنا فقرات منه في مطلع هذا البيان الوجيز .

                                                                                                                                                                                                                                      فنمضي الآن بالتفصيل مع السورة في مواجهة النصوص .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية