الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فلنأخذ في استعراض هذا النسق العالي في ظل هذا البيان المنير:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن. قال: إني جاعلك للناس إماما. قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - اذكر ما كان من ابتلاء الله لإبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف ، فأتمهن وفاء وقضاء.. وقد شهد الله لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى الله عنه فيستحق شهادته الجليلة: وإبراهيم الذي وفى .. وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم . مقام الوفاء والتوفية بشهادة الله عز وجل. والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم! عندئذ استحق إبراهيم تلك البشرى. أو تلك الثقة:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: إني جاعلك للناس إماما ..

                                                                                                                                                                                                                                      إماما يتخذونه قدوة، ويقودهم إلى الله، ويقدمهم إلى الخير، ويكونون له تبعا، وتكون له فيهم قيادة.

                                                                                                                                                                                                                                      عندئذ تدرك إبراهيم فطرة البشر: الرغبة في الامتداد عن طريق الذراري والأحفاد. ذلك الشعور الفطري العميق، الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو الحياة وتمضي في طريقها المرسوم، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق، وتتعاون الأجيال كلها وتتساوق.. ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم تحطيمه أو تعويقه وتكبيله; وهو مركوز في أصل الفطرة لتحقيق تلك الغاية البعيدة المدى. وعلى أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث، تلبية لتلك الفطرة، وتنشيطا لها لتعمل، ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد. وما المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا محاولة لتحطيم الفطرة البشرية في أساسها; وإلا تكلف وقصر نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع الاجتماعية المنحرفة. وكل علاج يصادم الفطرة لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى. وهناك غيره من العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة. ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان، وإلى خبرة بالنفس البشرية أعمق، وفكرة عن تكوينها أدق، وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي تنزع إلى التحطيم والتنكيل، أكثر مما ترمي إلى البناء والإصلاح:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: ومن ذريتي .. / 50 وجاءه الرد من ربه الذي ابتلاه واصطفاه، يقرر القاعدة الكبرى التي أسلفنا.. إن الإمامة لمن يستحقونها بالعمل والشعور ، وبالصلاح والإيمان، وليست وراثة أصلاب وأنساب. فالقربى ليست وشيجة لحم ودم، إنما هي وشيجة دين وعقيدة. ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم إن هي إلا دعوى الجاهلية، التي تصطدم اصطداما أساسيا بالتصور الإيماني الصحيح:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: لا ينال عهدي الظالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      والظلم أنواع وألوان : ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي.. والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة: إمامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة الصلاة.. وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة.

                                                                                                                                                                                                                                      فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها. ومن ظلم - أي لون من الظلم - فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها بكل معنى من معانيها.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع في [ ص: 113 ] تنحية اليهود عن القيادة والإمامة، بما ظلموا، وبما فسقوا، وبما عتوا عن أمر الله، وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع كذلك في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم. بما ظلموا، وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق الله، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم.. ودعواهم الإسلام، وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله.

                                                                                                                                                                                                                                      إن التصور الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل . ولا يعترف بقربى ولا رحم إذا أنبتت وشيجة العقيدة والعمل ويسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل.. وهو يفصل بين جيل من الأمة الواحدة وجيل إذا خالف أحد الجيلين الآخر في عقيدته، بل يفصل بين الوالد والولد، والزوج والزوج إذا انقطع بينهما حبل العقيدة. فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء آخر. ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة. والذين آمنوا من أهل الكتاب شيء، والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى شيء آخر، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة.. إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفادا.. إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة. وإن الأمة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين..

                                                                                                                                                                                                                                      إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم.. وهذا هو التصور الإيماني، الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرباني، في كتاب الله الكريم..

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذا البيت الحرام الذي قام سدنته من قريش فروعوا المؤمنين وآذوهم وفتنوهم عن دينهم حتى هاجروا من جواره.. لقد أراده الله مثابة يثوب إليها الناس جميعا، فلا يروعهم أحد بل; يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم. فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أمروا أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى - ومقام إبراهيم يشير هنا إلى البيت كله وهذا ما نختاره في تفسيره - فاتخاذ البيت قبلة للمسلمين هو الأمر الطبيعي، الذي لا يثير اعتراضا. وهو أولى قبلة يتوجه إليها المسلمون، ورثةإبراهيم بالإيمان والتوحيد الصحيح، بما أنه بيت الله ، لا بيت أحد من الناس. وقد عهد الله - صاحب البيت - إلى عبدين من عباده صالحين أن يقوما بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود - أي للحجاج الوافدين عليه، وأهله العاكفين فيه، والذين يصلون فيه ويركعون ويسجدون فحتى إبراهيم وإسماعيل لم يكن البيت ملكا لهما، فيورث بالنسب عنهما، إنما كانا سادنين له بأمر ربهما، لإعداده لقصاده وعباده من المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا بلدا آمنا، وارزق أهله من الثمرات.. من آمن منهم بالله واليوم الآخر.. قال: ومن كفر فأمتعه قليلا، ثم أضطره إلى عذاب النار، وبئس المصير ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومرة أخرى يؤكد دعاء إبراهيم صفة الأمن للبيت . ومرة أخرى يؤكد معنى الوراثة للفضل والخير..

                                                                                                                                                                                                                                      إن إبراهيم قد أفاد من عظة ربه له في الأولى. لقد وعى منذ أن قال له ربه: لا ينال عهدي الظالمين .. [ ص: 114 ] وعى هذا الدرس.. فهو هنا، في دعائه أن يرزق الله أهل هذا البلد من الثمرات، يحترس ويستثني ويحدد من يعني:

                                                                                                                                                                                                                                      من آمن منهم بالله واليوم الآخر ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه إبراهيم الأواه الحليم القانت المستقيم، يتأدب بالأدب الذي علمه ربه، فيراعيه في طلبه ودعائه..

                                                                                                                                                                                                                                      وعندئذ يجيبه رد ربه مكملا ومبينا عن الشطر الآخر الذي سكت عنه. شطر الذين لا يؤمنون، ومصيرهم الأليم:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: ومن كفر فأمتعه قليلا، ثم أضطره إلى عذاب النار، وبئس المصير ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود.. يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن التعبير يبدأ بصيغة الخبر.. حكاية تحكى:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ..

                                                                                                                                                                                                                                      وبينما نحن في انتظار بقية الخبر، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما، ويرينا إياهما، كما لو كانت رؤية العين لا رؤيا الخيال. إنهما أمامنا حاضران، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان:

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا..

                                                                                                                                                                                                                                      فنغمة الدعاء، وموسيقى الدعاء، وجو الدعاء.. كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة..

                                                                                                                                                                                                                                      وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل . رد المشهد الغائب الذاهب، حاضرا يسمع ويرى، ويتحرك ويشخص، وتفيض منه الحياة.. إنها خصيصة "التصوير الفني" بمعناه الصادق، اللائق بالكتاب الخالد.

                                                                                                                                                                                                                                      وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء:

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا تقبل منا. إنك أنت السميع العليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه طلب القبول.. هذه هي الغاية.. فهو عمل خالص لله. الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله. والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول.. والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء. عليم بما وراءه من النية والشعور.

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه رجاء العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام; والشعور بأن قلبيهما بين أصبعين من أصابع الرحمن; وأن الهدى هداه، وأنه لا حول لهما ولا قوة إلا بالله، فهما يتجهان ويرغبان، والله المستعان.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم هو طابع الأمة المسلمة.. التضامن .. تضامن الأجيال في العقيدة: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك .. [ ص: 115 ] وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن. إن أمر العقيدة هو شغله الشاغل، وهو همه الأول. وشعور إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما.. نعمة الإيمان.. تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام.. لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان; وأن يريهم جميعا مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم. بما أنه هو التواب الرحيم.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة:

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. إنك أنت العزيز الحكيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون. بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، يتلو عليهم آيات، الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من الأرجاس والأدناس.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الدعوة المستجابة تستجاب ، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته. غير أن الناس يستعجلون! وغير الواصلين يملون ويقنطون! وبعد فإن لهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان يشجر بين اليهود والجماعة المسلمة من نزاع عنيف متعدد الأطراف.

                                                                                                                                                                                                                                      إن إبراهيم وإسماعيل اللذين عهد الله إليهما برفع قواعد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والمصلين، وهما أصل سادني البيت من قريش .. إنهما يقولان باللسان الصريح: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك .. كما يقولان باللسان الصريح: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم .. وهما بهذا وذاك يقرران وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم ، ووراثتها للبيت الحرام سواء. وإذن فهو بيتها الذي تتجه إليه، وهي أولى به من المشركين. وهو أولى بها من قبلة اليهود والمسيحيين! وإذن فمن كان يربط ديانته بإبراهيم من اليهود والنصارى ، ويدعي دعاواه العريضة في الهدى والجنة بسبب تلك الوراثة، ومن كان يربط نسبه بإسماعيل من قريش .. فليسمع: إن إبراهيم حين طلب الوراثة لبنيه والإمامة، قال له ربه: لا ينال عهدي الظالمين .. ولما أن دعا هو لأهل البلد بالرزق والبركة خص بدعوته: من آمن منهم بالله واليوم الآخر .. وحين قام هو وإسماعيل بأمر ربهما في بناء البيت وتطهيره كانت دعوتهما: أن يكونا مسلمين لله، وأن يجعل الله من ذريتهما أمة مسلمة، وأن يبعث في أهل بيته رسولا منهم..

                                                                                                                                                                                                                                      فاستجاب الله لهما، وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله ، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله.

                                                                                                                                                                                                                                      الوارثة لدين الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وعند هذا المقطع من قصة إبراهيم ، يلتقط السياق دلالته وإيحاءه، ليواجه بهما الذين ينازعون الأمة المسلمة الإمامة; وينازعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - النبوة والرسالة; ويجادلون في حقيقة دين الله الأصيلة الصحيحة:

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه هي ملة إبراهيم .. الإسلام الخالص الصريح.. لا يرغب عنها وينصرف إلا ظالم لنفسه، سفيه عليها، [ ص: 116 ] مستهتر بها.. إبراهيم الذي اصطفاه ربه في الدنيا إماما، وشهد له في الآخرة بإصلاح.. اصطفاه إذ قال له ربه أسلم .. فلم يتلكأ، ولم يرتب، ولم ينحرف، واستجاب فور تلقي الأمر.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: أسلمت لرب العالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه هي ملة إبراهيم .. الإسلام الخالص الصريح.. ولم يكتف إبراهيم بنفسه إنما تركها في عقبه، وجعلها وصيته في ذريته، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه. ويعقوب هو إسرائيل الذي ينتسبون إليه، ثم لا يلبون وصيته، ووصية جده وجدهم إبراهيم ! ولقد ذكر كل من إبراهيم ويعقوب بنيه بنعمة الله عليهم في اختياره الدين لهم:

                                                                                                                                                                                                                                      يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو من اختيار الله. فلا اختيار لهم بعده ولا اتجاه. وأقل ما توجبه رعاية الله لهم، وفضل الله عليهم، هو الشكر على نعمة اختياره واصطفائه، والحرص على ما اختاره لهم، والاجتهاد في ألا يتركوا هذه الأرض إلا وهذه الأمانة محفوظة فيهم:

                                                                                                                                                                                                                                      فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وها هي ذي الفرصة سانحة، فقد جاءهم الرسول الذي يدعوهم إلى الإسلام، وهو ثمرة الدعوة التي دعاها أبوهم إبراهيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      تلك كانت وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب لبنيه.. الوصية التي كررها يعقوب في آخر لحظة من لحظات حياته; والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته، فليسمعها بنو إسرائيل :

                                                                                                                                                                                                                                      أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت. إذ قال لبنيه: ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير.. ميت يحتضر. فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها العقيدة.. هي التركة. وهي الذخر. وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته:

                                                                                                                                                                                                                                      ما تعبدون من بعدي ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله. وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها. وهذه هي الأمانة والذخر والتراث..

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق . إلها واحدا. ونحن له مسلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه. إنهم يتسلمون التراث ويصونونه. إنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب . وكذلك هم ينصون نصا صريحا على أنهم "مسلمون".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 117 ] والقرآن يسأل بني إسرائيل : أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت .. فهذا هو الذي كان، يشهد به الله، ويقرره، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه والتضليل; ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين أبيهم إسرائيل ! وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمة التي خلت، والجيل الذي كانت تواجهه الدعوة..

                                                                                                                                                                                                                                      حيث لا مجال لصلة، ولا مجال لوراثة، ولا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين:

                                                                                                                                                                                                                                      تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      فلكل حساب ولكل طريق; ولكل عنوان; ولكل صفة.. أولئك أمة من المؤمنين فلا علاقة لها بأعقابها من الفاسقين. إن هذه الأعقاب ليست امتدادا لتلك الأسلاف. هؤلاء حزب وأولئك حزب. لهؤلاء راية ولأولئك راية.. والتصور الإيماني في هذا غير التصور الجاهلي.. فالتصور الجاهلي لا يفرق بين جيل من الأمة وجيل، لأن الصلة هي صلة الجنس والنسب. أما التصور الإيماني فيفرق بين جيل مؤمن وجيل فاسق; فليسا أمة واحدة، وليس بينهما صلة ولا قرابة.. إنهما أمتان مختلفتان في ميزان الله، فهما مختلفتان في ميزان المؤمنين. إن الأمة في التصور الإيماني هي الجماعة التي تنتسب إلى عقيدة واحدة من كل جنس ومن كل أرض; وليست هي الجماعة التي تنتسب إلى جنس واحد أو أرض واحدة. وهذا هو التصور اللائق بالإنسان، الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية، لا من التصاقات الطين الأرضية! في ظل هذا البيان التاريخي الحاسم، لقصة العهد مع إبراهيم : وقصة البيت الحرام كعبة المسلمين; ولحقيقة الوراثة وحقيقة الدين; يناقش ادعاءات أهل الكتاب المعاصرين، ويعرض لحججهم وجدلهم ومحالهم، فيبدو هذا كله ضعيفا شاحبا، كما يبدو فيه العنت والادعاء بلا دليل: كذلك تبدو العقيدة الإسلامية عقيدة طبيعية شاملة لا ينحرف عنها إلا المتعنتون.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية