الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا. قل: بل ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين. قولوا: آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله، وهو السميع العليم. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة؟ ونحن له عابدون. قل: أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ونحن له مخلصون؟. أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى؟ قل: أأنتم أعلم أم الله؟ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله؟ وما الله بغافل عما تعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما كان قول اليهود : كونوا يهودا تهتدوا; وكان قول النصارى : كونوا نصارى تهتدوا. فجمع الله قوليهم ليوجه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم جميعا بكلمة واحدة:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: بل ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين ..

                                                                                                                                                                                                                                      قل: بل نرجع جميعا، نحن وأنتم، إلى ملة إبراهيم ، أبينا وأبيكم، وأصل ملة الإسلام، وصاحب العهد مع ربه عليه.. وما كان من المشركين .. بينما أنتم تشركون..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يدعو المسلمين لإعلان الوحدة الكبرى للدين ، من لدن إبراهيم أبي الأنبياء إلى عيسى بن مريم ، إلى [ ص: 118 ] الإسلام الأخير. ودعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بهذا الدين الواحد:

                                                                                                                                                                                                                                      قولوا: آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم. لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      تلك الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعا، وبين الرسل جميعا، هي قاعدة التصور الإسلامي وهي التي تجعل من الأمة المسلمة، الأمة الوارثة لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في الدرب على هدى ونور. والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي الذي يملك الجميع الحياة في ظله دون تعصب ولا اضطهاد. والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا مفتوحا للناس جميعا في مودة وسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يقرر السياق الحقيقة الكبيرة، ويثبت عليها المؤمنين بهذه العقيدة. حقيقة أن هذه العقيدة هي الهدى.

                                                                                                                                                                                                                                      من اتبعها فقد اهتدى. ومن أعرض عنها فلن يستقر على أصل ثابت ومن ثم يظل في شقاق مع الشيع المختلفة التي لا تلتقي على قرار:

                                                                                                                                                                                                                                      فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الكلمة من الله، وهذه الشهادة منه سبحانه، تسكب في قلب المؤمن الاعتزاز بما هو عليه. فهو وحده المهتدي. ومن لا يؤمن بما يؤمن به فهو المشاق للحق المعادي للهدى. ولا على المؤمن من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن، ولا عليه من كيده ومكره. ولا عليه من جداله ومعارضته. فالله سيتولاهم عنه، وهو كافيه وحسبه:

                                                                                                                                                                                                                                      فسيكفيكهم الله. وهو السميع العليم .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه، وبالعلامة التي يضعها الله على أوليائه، فيعرفون بها في الأرض:

                                                                                                                                                                                                                                      صبغة الله. ومن أحسن من الله صبغة؟ ونحن له عابدون .

                                                                                                                                                                                                                                      صبغة الله التي شاء لها أن تكون آخر رسالاته إلى البشر. لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة الآفاق، لا تعصب فيها ولا حقد، ولا أجناس فيها ولا ألوان.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة.. إن صدر هذه الآية من كلام الله التقريري: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة .. أما باقيها فهو من كلام المؤمنين. يلحقه السياق - بلا فاصل - بكلام البارئ سبحانه في السياق. وكله قرآن منزل. ولكن الشطر الأول حكاية عن قول الله، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين. وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربهم، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم. وأمثال هذا في القرآن كثير.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو ذو مغزى كبير.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تمضي الحجة الدامغة إلى نهايتها الحاسمة:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: أتحاجوننا في الله، وهو ربنا وربكم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ونحن له مخلصون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولا مجال للجدل في وحدانية الله وربوبيته . فهو ربنا وربكم، ونحن محاسبون بأعمالنا، وعليكم وزر أعمالكم. ونحن متجردون له مخلصون لا نشرك به شيئا، ولا نرجو معه أحدا.. وهذا الكلام تقرير لموقف [ ص: 119 ] المسلمين واعتقادهم وهو غير قابل للجدل والمحاجة واللجاج..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يضرب السياق عنه، وينتقل إلى مجال آخر من مجالات الجدل. يظهر أنه هو الآخر غير قابل للجاجة والمحال:

                                                                                                                                                                                                                                      أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      وهم كانوا أسبق من موسى ، وأسبق من اليهودية والنصرانية. والله يشهد بحقيقة دينهم - وهو الإسلام كما سبق البيان - :

                                                                                                                                                                                                                                      قل: أأنتم أعلم أم الله؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو سؤال لا جواب عليه! وفيه من الاستنكار ما يقطع الألسنة دون الجواب عليه! ثم إنكم لتعلمون أنهم كانوا قبل أن تكون اليهودية والنصرانية. وكانوا على الحنيفية الأولى التي لا تشرك بالله شيئا. ولديكم كذلك شهادة في كتبكم أن سيبعث نبي في آخر الزمان دينه الحنيفية، دين إبراهيم . ولكنكم تكتمون هذه الشهادة:

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      والله مطلع على ما تخفون من الشهادة التي ائتمنتم عليها، وما تقومون به من الجدال فيها لتعميتها وتلبيسها:

                                                                                                                                                                                                                                      وما الله بغافل عما تعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      141 - وحين يصل السياق إلى هذه القمة في الإفحام، وإلى هذا الفصل في القضية، وإلى بيان ما بين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وبين اليهود المعاصرين من مفارقة تامة في كل اتجاه.. عندئذ يعيد الفاصلة التي ختم بها الحديث من قبل عن إبراهيم وذريته المسلمين:

                                                                                                                                                                                                                                      تلك أمة قد خلت. لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. ولا تسألون عما كانوا يعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وفيها فصل الخطاب، ونهاية الجدل، والكلمة الأخيرة في تلك الدعاوى الطويلة العريضة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 120 ] انتهى الجزء الأول

                                                                                                                                                                                                                                      ويليه الجزء الثاني مبدوءا بقوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية