ثم لفتة إلى سنة الله في رسالاته، وإلى بعض آيات الله في الأرض من مصائر السابقين.. إن
محمدا ليس بدعا من الرسل، ورسالته ليست بدعا من الرسالات. وهذه عواقب الذين كذبوا من قبل، آيات معروضة في الأرض.
nindex.php?page=treesubj&link=28983_19860_19863_31791_32016_32438_34136_34163nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى. أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا، أفلا تعقلون؟ .
إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب. حتى قلوب المتجبرين. ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم، وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون، يخافون ويرجون، يطمعون ويتطلعون.. ثم إذا هم ساكنون، لا حس ولا حركة. آثارهم خاوية، طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم، ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر.. إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزا مهما يكن جاسيا غافلا قاسيا. ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على مصارع الغابرين بين الحين والحين:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ..
لم يكونوا ملائكة ولا خلقا آخر. إنما كانوا بشرا مثلك من أهل الحاضرة، لا من أهل البادية، ليكونوا أرق حاشية وألين جانبا.. وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية، فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم..
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ ..
فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم; وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم; وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109ولدار الآخرة خير للذين اتقوا .
خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار.
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109أفلا تعقلون؟ ..
فتتدبروا سنن الله في الغابرين؟ أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير؟
ثم يصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله، وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110حتى إذا استيئس الرسل، وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين .
إنها صورة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود. وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.
[ ص: 2036 ] إنها ساعات حرجة، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض. فتهجس في خواطرهم الهواجس.. تراهم كذبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر. وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ... ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق.
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسما فاصلا:
nindex.php?page=treesubj&link=28983_30539_30614_31780_31788_32026_34092nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ..
تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمرا ماحقا لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
ذلك كي لا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا. فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئا. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولا لعبا. فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدعوها، فإذا ادعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون; الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة!
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل; إما أن تربح ربحا معينا محددا في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية - والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان - يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيضا والأبيض أسودا! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! .. ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضا. وأنه من ثم لا تنضم إليها - في أول الأمر - الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا.
[ ص: 2037 ] ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، بعد جهاد يطول أو يقصر. وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجا.
وفي قصة
يوسف ألوان من الشدائد. في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن. وألوان من الاستئناس من نصرة الناس.. ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا - كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب - وقصة
يوسف نموذج من قصص المرسلين. فيها عبرة لمن يعقل، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل، على غير صلة بين
محمد وهذه الكتب. فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثا مفترى. فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضا ولا تحقق هداية، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ..
وهكذا يتوافق المطلع والختام في السورة، كما توافق المطلع والختام في القصة. وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها، وبين ثناياها، متناسقة مع موضوع القصة، وطريقة آدائها، وعباراتها كذلك. فتحقق الهدف الديني كاملا، وتحقق السمات الفنية كاملة، مع صدق الرواية، ومطابقة الواقع في الموضوع.
وقد بدأت القصة وانتهت في سورة واحدة، لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من الأداء. فهي رؤيا تتحقق رويدا رويدا، ويوما بعد يوم، ومرحلة بعد مرحلة. فلا تتم العبرة بها - كما لا يتم التنسيق الفني فيها - إلا بأن يتابع السياق خطوات القصة ومراحلها حتى نهايتها. وإفراد حلقة واحدة منها في موضع لا يحقق شيئا من هذا كله كما يحققه إفراد بعض الحلقات في قصص الرسل الآخرين. كحلقة قصة
سليمان مع
بلقيس . أو حلقة قصة مولد
مريم . أو حلقة قصة مولد
عيسى . أو حلقة قصة
نوح والطوفان ... إلخ فهذه الحلقات تفي بالغرض منها كاملا في مواضعها. أما قصة
يوسف فتقتضي أن تتلى كلها متوالية حلقاتها ومشاهدها، من بدئها إلى نهايتها وصدق الله العظيم:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن. وإن كنت من قبله لمن الغافلين ..
ثُمَّ لَفْتَةٌ إِلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي رِسَالَاتِهِ، وَإِلَى بَعْضِ آيَاتِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَصَائِرِ السَّابِقِينَ.. إِنَّ
مُحَمَّدًا لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَرِسَالَتَهُ لَيْسَتْ بِدْعًا مِنَ الرِّسَالَاتِ. وَهَذِهِ عَوَاقِبُ الَّذِينَ كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، آيَاتٌ مَعْرُوضَةٌ فِي الْأَرْضِ.
nindex.php?page=treesubj&link=28983_19860_19863_31791_32016_32438_34136_34163nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ .
إِنَّ النَّظَرَ فِي آثَارِ الْغَابِرِينَ يَهُزُّ الْقُلُوبَ. حَتَّى قُلُوبَ الْمُتَجَبِّرِينَ. وَلَحَظَاتُ الِاسْتِرْجَاعِ الْخَيَالِيِّ لِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَخَلَجَاتِهِمْ، وَتَصَوُّرُهُمْ أَحْيَاءٌ يَرُوحُونَ فِي هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ وَيَجِيئُونَ، يَخَافُونَ وَيَرْجُونَ، يَطْمَعُونَ وَيَتَطَلَّعُونَ.. ثُمَّ إِذَا هُمْ سَاكِنُونَ، لَا حِسَّ وَلَا حَرَكَةَ. آثَارُهُمْ خَاوِيَةٌ، طَوَاهُمُ الْفَنَاءُ وَانْطَوَتْ مَعَهُمْ مَشَاعِرُهُمْ وَعَوَالِمُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ وَحَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ، وَدُنْيَاهُمُ الْمَاثِلَةُ لِلْعِيَانِ وَالْمُسْتَكِنَّةُ فِي الضَّمَائِرِ وَالْمَشَاعِرِ.. إِنَّ هَذِهِ التَّأَمُّلَاتِ لَتَهُزُّ الْقَلْبَ الْبَشْرِيَّ هَزًّا مَهْمَا يَكُنْ جَاسِيًا غَافِلًا قَاسِيًا. وَمِنْ ثَمَّ يَأْخُذُ الْقُرْآنُ بِيَدِ الْقَوْمِ لِيُوقِفَهُمْ عَلَى مُصَارِعِ الْغَابِرِينَ بَيْنَ الْحِينِ وَالْحِينِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ..
لَمْ يَكُونُوا مَلَائِكَةً وَلَا خَلْقًا آخَرَ. إِنَّمَا كَانُوا بَشَرًا مِثْلَكَ مِنْ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ، لَا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، لِيَكُونُوا أَرَقَّ حَاشِيَةً وَأَلْيَنَ جَانِبًا.. وَأَصْبَرَ عَلَى احْتِمَالِ تَكَالِيفِ الدَّعْوَةِ وَالْهِدَايَةِ، فَرِسَالَتُكَ مَاضِيَةٌ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي إِرْسَالِ رِجَالٍ مِنَ الْبَشَرِ نُوحِي إِلَيْهِمْ..
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ ..
فَيُدْرِكُوا أَنَّ مَصِيرَهُمْ كَمَصِيرِهِمْ; وَأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ الْوَاضِحَةَ الْآثَارِ فِي آثَارِ الْغَابِرِينَ سَتَنَالُهُمْ; وَأَنَّ عَاقِبَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إِلَى ذَهَابٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا .
خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا قَرَارٌ.
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ ..
فَتَتَدَبَّرُوا سُنَنَ اللَّهِ فِي الْغَابِرِينَ؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَتُؤْثِرُوا الْمَتَاعَ الْبَاقِي عَلَى الْمَتَاعِ الْقَصِيرِ؟
ثُمَّ يُصَوِّرُ سَاعَاتِ الْحَرَجِ الْقَاسِيَةَ فِي حَيَاةِ الرُّسُلِ، قُبَيْلَ اللَّحْظَةِ الْحَاسِمَةِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ فِيهَا وَعْدُ اللَّهِ، وَتَمْضِي فِيهَا سُنَّتُهُ الَّتِي لَا تَتَخَلَّفُ وَلَا تَحِيدُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا، جَاءَهُمْ نَصْرُنَا، فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ .
إِنَّهَا صُورَةٌ رَهِيبَةٌ، تَرْسُمُ مَبْلَغَ الشِّدَّةِ وَالْكَرْبِ وَالضِّيقِ فِي حَيَاةِ الرُّسُلِ، وَهُمْ يُوَاجِهُونَ الْكُفْرَ وَالْعَمَى وَالْإِصْرَارَ وَالْجُحُودَ. َوَتَمُرُّ الْأَيَّامُ وَهُمْ يَدْعُونَ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَتَكُرُّ الْأَعْوَامُ وَالْبَاطِلُ فِي قُوَّتِهِ، وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِي عِدَّتِهِمُ الْقَلِيلَةِ وَقُوَّتِهِمُ الضَّئِيلَةِ.
[ ص: 2036 ] إِنَّهَا سَاعَاتٌ حَرِجَةٌ، وَالْبَاطِلُ يَنْتَفِشُ وَيَطْغَى وَيَبْطِشُ وَيَغْدِرُ. وَالرُّسُلُ يَنْتَظِرُونَ الْوَعْدَ فَلَا يَتَحَقَّقُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ. فَتَهْجِسُ فِي خَوَاطِرِهِمُ الْهَوَاجِسُ.. تُرَاهُمْ كُذِبُوا؟ تُرَى نُفُوسُهُمْ كَذَبَتْهُمْ فِي رَجَاءِ النَّصْرِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟
وَمَا يَقِفُ الرَّسُولُ هَذَا الْمَوْقِفَ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَ الْكَرْبُ وَالْحَرَجُ وَالضِّيقُ فَوْقَ مَا يُطِيقُهُ بَشَرٌ. وَمَا قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْآيَةَ الْأُخْرَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ ... مَا قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ أَوْ تِلْكَ إِلَّا وَشَعَرْتُ بِقُشَعْرِيرَةٍ مِنْ تَصَوُّرِ الْهَوْلِ الَّذِي يَبْلُغُ بِالرَّسُولِ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَمِنْ تَصَوُّرِ الْهَوْلِ الْكَامِنِ فِي هَذِهِ الْهَوَاجِسِ، وَالْكَرْبِ الْمُزَلْزِلِ الَّذِي يَرُجُّ نَفْسَ الرَّسُولِ هَذِهِ الرَّجَّةَ، وَحَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّحَظَاتِ، وَمَا يُحِسُّ بِهِ مِنْ أَلَمٍ لَا يُطَاقُ.
فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَسْتَحْكِمُ فِيهَا الْكَرْبُ، وَيَأْخُذُ فِيهَا الضِّيقُ بِمُخَانِقِ الرُّسُلِ، وَلَا تَبْقَى ذَرَّةٌ مِنَ الطَّاقَةِ الْمُدَّخَرَةِ.. فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ يَجِيءُ النَّصْرُ كَامِلًا حَاسِمًا فَاصِلًا:
nindex.php?page=treesubj&link=28983_30539_30614_31780_31788_32026_34092nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110جَاءَهُمْ نَصْرُنَا، فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ..
تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الدَّعَوَاتِ. لَا بُدَّ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْكُرُوبِ، حَتَّى لَا تَبْقَى بَقِيَّةٌ مِنْ جُهْدٍ وَلَا بَقِيَّةٌ مِنْ طَاقَةٍ. ثُمَّ يَجِيءُ النَّصْرُ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْ كُلِّ أَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا النَّاسُ. يَجِيءُ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَنْجُو الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ النَّجَاةَ، يَنْجُونَ مِنَ الْهَلَاكِ الَّذِي يَأْخُذُ الْمُكَذِّبِينَ، وَيَنْجُونَ مِنَ الْبَطْشِ وَالْعَسْفِ الَّذِي يُسَلِّطُهُ عَلَيْهِمُ الْمُتَجَبِّرُونَ. وَيَحِلُّ بَأْسُ اللَّهِ بِالْمُجْرِمِينَ، مُدَمِّرًا مَاحِقًا لَا يَقِفُونَ لَهُ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْهُمْ وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ.
ذَلِكَ كَيْ لَا يَكُونَ النَّصْرُ رَخِيصًا فَتَكُونَ الدَّعْوَاتُ هَزْلًا. فَلَوْ كَانَ النَّصْرُ رَخِيصًا لَقَامَ فِي كُلِّ يَوْمٍ دَعِيٌّ بِدَعْوَةٍ لَا تُكَلِّفُهُ شَيْئًا. أَوْ تُكَلِّفُهُ الْقَلِيلَ. وَدَعَوَاتُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا. فَإِنَّمَا هِيَ قَوَاعِدٌ لِلْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَنَاهِجٌ، يَنْبَغِي صِيَانَتُهَا وَحِرَاسَتُهَا مِنَ الْأَدْعِيَاءِ. وَالْأَدْعِيَاءُ لَا يَحْتَمِلُونَ تَكَالِيفَ الدَّعْوَةِ، لِذَلِكَ يُشْفِقُونَ أَنْ يَدَّعُوهَا، فَإِذَا ادَّعَوْهَا عَجَزُوا عَنْ حَمْلِهَا وَطَرَحُوهَا، وَتَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ عَلَى مَحَكِّ الشَّدَائِدِ الَّتِي لَا يَصْمُدُ لَهَا إِلَّا الْوَاثِقُونَ الصَّادِقُونَ; الَّذِينَ لَا يَتَخَلَّوْنَ عَنْ دَعْوَةِ اللَّهِ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّ النَّصْرَ لَا يَجِيئُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ!
إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ لَيْسَتْ تِجَارَةً قَصِيرَةَ الْأَجَلِ; إِمَّا أَنْ تَرْبَحَ رِبْحًا مُعَيَّنًا مُحَدَّدًا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَخَلَّى عَنْهَا أَصْحَابُهَا إِلَى تِجَارَةٍ أُخْرَى أَقْرَبَ رِبْحًا وَأَيْسَرُ حَصِيلَةً! وَالَّذِي يَنْهَضُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ - وَالْمُجْتَمَعَاتُ الْجَاهِلِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَدِينُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِالطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ فِي أَيِّ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ - يَجِبُ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِرِحْلَةٍ مُرِيحَةٍ، وَلَا يَقُومُ بِتِجَارَةٍ مَادِّيَّةٍ قَرِيبَةِ الْأَجَلِ! إِنَّمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ يُوَاجِهُ طَوَاغِيتَ يَمْلِكُونَ الْقُوَّةَ وَالْمَالَ وَيَمْلِكُونَ اسْتِخْفَافَ الْجَمَاهِيرِ حَتَّى تَرَى الْأَسْوَدَ أَبْيَضًا وَالْأَبْيَضَ أَسْوَدًا! وَيَمْلِكُونَ تَأْلِيبَ هَذِهِ الْجَمَاهِيرِ ذَاتِهَا عَلَى أَصْحَابِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، بِاسْتِثَارَةِ شَهَوَاتِهَا وَتَهْدِيدِهَا بِأَنَّ أَصْحَابَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ يُرِيدُونَ حِرْمَانَهَا مِنْ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ! .. وَيَجِبُ أَنْ يَسْتَيْقِنُوا أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ كَثِيرَةُ التَّكَالِيفِ، وَأَنَّ الِانْضِمَامَ إِلَيْهَا فِي وَجْهِ الْمُقَاوَمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَثِيرُ التَّكَالِيفِ أَيْضًا. وَأَنَّهُ مِنْ ثَمَّ لَا تَنْضَمُّ إِلَيْهَا - فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ - الْجَمَاهِيرُ الْمُسْتَضْعَفَةُ، إِنَّمَا تَنْضَمُّ إِلَيْهَا الصَّفْوَةُ الْمُخْتَارَةُ فِي الْجِيلِ كُلِّهِ، الَّتِي تُؤْثِرُ حَقِيقَةَ هَذَا الدِّينِ عَلَى الرَّاحَةِ وَالسَّلَامَةِ، وَعَلَى كُلِّ مَتَاعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَأَنَّ عَدَدَ هَذِهِ الصَّفْوَةِ يَكُونُ دَائِمًا قَلِيلًا جِدًّا.
[ ص: 2037 ] وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ بِالْحَقِّ، بَعْدَ جِهَادٍ يَطُولُ أَوْ يَقْصُرُ. وَعِنْدَئِذٍ فَقَطْ تَدْخُلُ الْجَمَاهِيرُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا.
وَفِي قِصَّةِ
يُوسُفَ أَلْوَانٌ مِنَ الشَّدَائِدِ. فِي الْجُبِّ وَفِي بَيْتِ الْعَزِيزِ وَفِي السِّجْنِ. وَأَلْوَانٌ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ مِنْ نُصْرَةِ النَّاسِ.. ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ خَيْرًا لِلَّذِينِ اتَّقَوْا - كَمَا هُوَ وَعْدُ اللَّهِ الصَّادِقِ الَّذِي لَا يَخِيبُ - وَقِصَّةُ
يُوسُفَ نَمُوذَجٌ مِنْ قَصَصِ الْمُرْسَلِينَ. فِيهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَفِيهَا تَصْدِيقُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ قَبْلُ، عَلَى غَيْرِ صِلَةٍ بَيْنَ
مُحَمَّدٍ وَهَذِهِ الْكُتُبِ. فَمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ حَدِيثًا مُفْتَرَى. فَالْأَكَاذِيبُ لَا يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَلَا تُحَقِّقُ هِدَايَةً، وَلَا يَسْتَرْوِحُ فِيهَا الْقَلْبُ الْمُؤْمِنُ الرُّوحَ وَالرَّحْمَةَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ..
وَهَكَذَا يَتَوَافَقُ الْمَطْلَعُ وَالْخِتَامُ فِي السُّورَةِ، كَمَا تَوَافَقَ الْمَطْلَعُ وَالْخِتَامُ فِي الْقِصَّةِ. وَتَجِيءُ التَّعْقِيبَاتُ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَآخِرِهَا، وَبَيْنَ ثَنَايَاهَا، مُتَنَاسِقَةٌ مَعَ مَوْضُوعِ الْقِصَّةِ، وَطَرِيقَةِ آدَائِهَا، وَعِبَارَاتِهَا كَذَلِكَ. فَتُحَقِّقُ الْهَدَفَ الدِّينِيَّ كَامِلًا، وَتُحَقِّقُ السِّمَاتِ الْفَنِّيَّةَ كَامِلَةً، مَعَ صِدْقِ الرِّوَايَةِ، وَمُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ فِي الْمَوْضُوعِ.
وَقَدْ بَدَأَتِ الْقِصَّةُ وَانْتَهَتْ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ طَبِيعَتَهَا تَسْتَلْزِمُ هَذَا اللَّوْنَ مِنَ الْأَدَاءِ. فَهِيَ رُؤْيَا تَتَحَقَّقُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا، وَيَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَمَرْحَلَةً بَعْدَ مَرْحَلَةٍ. فَلَا تَتِمُّ الْعِبْرَةُ بِهَا - كَمَا لَا يَتِمُّ التَّنْسِيقُ الْفَنِّيُّ فِيهَا - إِلَّا بِأَنْ يُتَابِعَ السِّيَاقُ خُطُوَاتِ الْقِصَّةِ وَمَرَاحِلَهَا حَتَّى نِهَايَتِهَا. وَإِفْرَادُ حَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يُحَقِّقُ شَيْئًا مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَمَا يُحَقِّقُهُ إِفْرَادُ بَعْضِ الْحَلَقَاتِ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ الْآخَرِينَ. كَحَلْقَةِ قِصَّةِ
سُلَيْمَانَ مَعَ
بِلْقِيسَ . أَوْ حَلْقَةِ قِصَّةِ مَوْلِدِ
مَرْيَمَ . أَوْ حَلْقَةِ قِصَّةِ مَوْلِدِ
عِيسَى . أَوْ حَلْقَةِ قِصَّةِ
نُوحٍ وَالطُّوفَانِ ... إِلَخْ فَهَذِهِ الْحَلَقَاتُ تَفِي بِالْغَرَضِ مِنْهَا كَامِلًا فِي مَوَاضِعِهَا. أَمَّا قِصَّةُ
يُوسُفَ فَتَقْتَضِي أَنْ تُتْلَى كُلُّهَا مُتَوَالِيَةً حَلَقَاتُهَا وَمَشَاهِدُهَا، مِنْ بَدْئِهَا إِلَى نِهَايَتِهَا وَصَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ. وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ..