nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76nindex.php?page=treesubj&link=32016_32409_28999_28901إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (78)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=79فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم (79)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=80وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون (80)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=81فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81)
[ ص: 2710 ] nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=82وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون (82)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=83تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (83)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=84من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون (84)
مضت مطالع السورة بقصة
موسى وفرعون، وقد عرضت فيها قوة السلطان والحكم، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم، والكفران بالله، والبعد عن هداه، والآن تجيء قصة
قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق، وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح; مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.
ولا يحدد القرآن زمان القصة ولا مكانها; إنما يكتفي بأن
قارون كان من قوم
موسى فبغى عليهم، فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل
وموسى في
مصر قبل الخروج؟ أم وقعت بعد الخروج ف حياة
موسى ؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد
موسى ؟ هناك روايات تقول: إنه كان ابن عم
لموسى - عليه السلام - وأن الحادث وقع في زمان
موسى . ويزيد بعضها فيذكر أن
قارون آذى
موسى ، ودبر له مكيدة ليلصق به تهمة الفاحشة بامرأة معينة في مقابل رشوة من المال، فبرأ الله
موسى وأذن له في
قارون، فخسفت به الأرض..
ولسنا في حاجة إلى كل هذه الروايات، ولا إلى تحديد الزمان والمكان، فالقصة كما وردت في القرآن كافية لأداء الغرض منها في سياق السورة، ولتقرير القيم والقواعد التي جاءت لتقريرها، ولو كان تحديد زمانها ومكانها وملابساتها يزيد في دلالتها شيئا ما ترك تحديدها، فلنستعرضها إذن في صورتها القرآنية، بعيدة عن تلك الروايات التي لا طائل وراءها..
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة. إذ قال له قومه: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين. nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78قال: إنما أوتيته على علم عندي ..
هكذا تبدأ القصة فتعين اسم بطلها
"قارون" وتحدد قومه
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76قوم موسى وتقرر مسلكه مع قومه، وهو مسلك البغي
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76فبغى عليهم وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ..
ثم تمضي بعد ذلك في استعراض الأحداث والأقوال والانفعالات التي صاحبتها في النفوس.
لقد كان
قارون من قوم
موسى ، فآتاه الله مالا كثيرا، يصور كثرته بأنه كنوز - والكنز هو المخبوء المدخر من
[ ص: 2711 ] المال الفائض عن الاستعمال والتداول - وبأن مفاتح هذه الكنوز تعبي المجموعة من أقوياء الرجال، من أجل هذا بغى
قارون على قومه، ولا يذكر فيم كان البغي، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشيائهم - كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان - وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال، حق الفقراء في أموال الأغنياء، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه، فتفسد القلوب، وتفسد الحياة.وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب.
وعلى أية حال فقد وجد من قومه من يحاول رده عن هذا البغي، ورجعه إلى النهج القويم، الذي يرضاه الله في التصرف بهذا الثراء; وهو نهج لا يحرم الأثرياء ثراءهم; ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال; ولكنه يفرض عليهم القصد والاعتدال; وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم، ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76إذ قال له قومه: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض. إن الله لا يحب المفسدين .
وفي هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76لا تفرح .. فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ، لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال; وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران، لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد..
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76إن الله لا يحب الفرحين .. فهم يردونه بذلك إلى الله، الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال، المتباهين، المتطاولين بسلطانه على الناس.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا .. وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم، المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة، بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس; وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض، ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها، والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وأحسن كما أحسن الله إليك .. فهذا المال هبة من الله وإحسان، فليقابل بالإحسان فيه، إحسان التقبل وإحسان التصرف، والإحسان به إلى الخلق، وإحسان الشعور بالنعمة، وإحسان الشكران.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77ولا تبغ الفساد في الأرض .. الفساد بالبغي والظلم. والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة، والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء، والفساد بإنفاق المال في غير وجهه أو إمساكه عن وجهه على كل حال.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77إن الله لا يحب المفسدين .. كما أنه لا يحب الفرحين.
[ ص: 2712 ] كذلك قال له قومه: فكان رده جملة واحدة، تحمل شتى معاني الفساد والإفساد:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78قال: إنما أوتيته على علم عندي !إنما أوتيت هذا المال استحقاقا على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله، فما لكم تملون علي طريقة خاصة في التصرف فيه، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص، واستحققته بعلمي الخاص؟
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها، ويفتنه المال ويعميه الثراء.
وهو نموذج مكرر في البشرية، فكم من الناس يظنأن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه، ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح، غير حاسب لله حسابا، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه!
والإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها; ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه، ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل، لا يحرم الفرد ثمرة جهده، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير; ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال، ورقابتها على طرق تحصيله، وطرق تنميته، وطرق إنفاقه والاستمتاع به، وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات.
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه، ولم يخضع لمنهجه القويم، وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم.
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية، ردا على قولته الفاجرة المغرورة:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا؟ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون .
فإن كان ذا قوة وذا مال، فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا، وكان عليه أن يعلم هذا، فهذا هو العلم المنجي، فليعلم، وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم، فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد!
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون !
ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة، يتجلى فيه البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي على العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج
قارون بزينته على قومه، فتطير لها قلوب فريق منهم، وتتهاوى لها نفوسهم، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي
قارون، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه المحرومون، ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة
قارون، ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين، في ثقة وفي يقين:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76nindex.php?page=treesubj&link=32016_32409_28999_28901إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=79فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=80وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ (80)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=81فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
[ ص: 2710 ] nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=82وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مِنْ اللَّهَ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=83تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=84مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
مَضَّتْ مَطَالِعُ السُّورَةِ بِقِصَّةِ
مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، وَقَدْ عُرِضَتْ فِيهَا قُوَّةُ السُّلْطَانِ وَالْحُكْمِ، وَكَيْفَ بَاءَتْ بِالْبَوَارِ مَعَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَالْكُفْرَانِ بِاللَّهِ، وَالْبُعْدِ عَنْ هُدَاهُ، وَالْآنَ تَجِيءُ قِصَّةُ
قَارُونَ لِتَعْرِضَ سُلْطَانَ الْمَالِ وَالْعِلْمِ، وَكَيْفَ يَنْتَهِي بِالْبَوَارِ مَعَ الْبَغْيِ وَالْبَطَرِ، وَالِاسْتِكْبَارِ عَلَى الْخَلْقِ وَجُحُودِ نِعْمَةِ الْخَالِقِ، وَتُقَرِّرُ حَقِيقَةَ الْقِيَمِ، فَتُرَخِّصُ مِنْ قِيمَةِ الْمَالِ وَالزِّينَةِ إِلَى جَانِبِ قِيمَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ; مَعَ الِاعْتِدَالِ وَالتَّوَازُنِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِطَيِّبَاتِ الْحَيَاةِ دُونَ عُلُوٍّ فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادٍ.
وَلَا يُحَدِّدُ الْقُرْآنُ زَمَانَ الْقِصَّةِ وَلَا مَكَانِهَا; إِنَّمَا يَكْتَفِي بِأَنَّ
قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ
مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ، فَهَلْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ
وَمُوسَى فِي
مِصْرَ قَبْلَ الْخُرُوجِ؟ أَمْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْخُرُوجِ فِ حَيَاةِ
مُوسَى ؟ أَمْ وَقَعَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ
مُوسَى ؟ هُنَاكَ رِوَايَاتٍ تَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ ابْنُ عَمٍّ
لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَنَّ الْحَادِثَ وَقَعَ فِي زَمَانِ
مُوسَى . وَيَزِيدُ بَعْضَهَا فَيَذْكُرُ أَنَّ
قَارُونَ آذَى
مُوسَى ، وَدَبَّرَ لَهُ مَكِيدَةً لِيُلْصِقَ بِهِ تُهْمَةَ الْفَاحِشَةِ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي مُقَابِلِ رِشْوَةٍ مِنَ الْمَالِ، فَبَرَّأَ اللَّهُ
مُوسَى وَأَذِنَ لَهُ فِي
قَارُونَ، فَخُسِفَتْ بِهِ الْأَرْضُ..
وَلَسْنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى كُلِّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَلَا إِلَى تَحْدِيدِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَالْقِصَّةُ كَمَا وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ كَافِيَةً لِأَدَاءِ الْغَرَضِ مِنْهَا فِي سِيَاقِ السُّورَةِ، وَلِتَقْرِيرِ الْقِيَمِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي جَاءَتْ لِتَقْرِيرِهَا، وَلَوْ كَانَ تَحْدِيدُ زَمَانِهَا وَمَكَانِهَا وَمُلَابَسَاتِهَا يَزِيدُ فِي دَلَالَتِهَا شَيْئًا مَا تَرَكَ تَحْدِيدَهَا، فَلْنَسْتَعْرِضْهَا إِذَنْ فِي صُورَتِهَا الْقُرْآنِيَّةِ، بَعِيدَةً عَنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا طَائِلَ وَرَاءَهَا..
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ. إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ، إِنَّ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78قَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ..
هَكَذَا تَبْدَأُ الْقِصَّةُ فَتُعَيِّنُ اسْمَ بَطَلِهَا
"قَارُونُ" وَتُحَدِّدُ قَوْمَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76قَوْمِ مُوسَى وَتَقَرَّرُ مَسْلَكَهُ مَعَ قَوْمِهِ، وَهُوَ مَسْلَكُ الْبَغْيِ
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَتُشِيرُ إِلَى سَبَبِ هَذَا الْبَغْيِ وَهُوَ الثَّرَاءُ.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ..
ثُمَّ تَمْضِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي اسْتِعْرَاضِ الْأَحْدَاثِ وَالْأَقْوَالِ وَالِانْفِعَالَاتِ الَّتِي صَاحَبَتْهَا فِي النُّفُوسِ.
لِقَدْ كَانَ
قَارُونُ مِنْ قَوْمِ
مُوسَى ، فَآتَاهُ اللَّهُ مَالًا كَثِيرًا، يُصَوِّرُ كَثْرَتَهَ بِأَنَّهُ كُنُوزٌ - وَالْكَنْزُ هُوَ الْمَخْبُوءُ الْمُدَّخَرُ مِنَ
[ ص: 2711 ] الْمَالِ الْفَائِضِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ وَالتَّدَاوُلِ - وَبِأَنَّ مَفَاتِحَ هَذِهِ الْكُنُوزِ تُعَبِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ أَقْوِيَاءِ الرِّجَالِ، مِنْ أَجْلِ هَذَا بَغَى
قَارُونُ عَلَى قَوْمِهِ، وَلَا يَذْكُرُ فِيمَ كَانَ الْبَغْيُ، لِيَدَعَهُ مُجْهَلًا يَشْمَلُ شَتَّى الصُّوَرِ. فَرُبَّمَا بَغَى عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ وَغَصْبِهِمْ أَرْضِهِمْ وَأَشْيَائِهِمْ - كَمَا يَصْنَعُ طُغَاةُ الْمَالِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانَ - وَرُبَّمَا بَغَى عَلَيْهِمْ بِحِرْمَانِهِمْ حَقَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ، كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَحْدَهُمْ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مَحَاوِيجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَتُفْسِدَ الْقُلُوبَ، وَتُفْسِدُ الْحَيَاةَ.وَرُبَّمَا بَغَى عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ.
وَعَلَى أَيَّةِ حَالٍ فَقَدْ وُجِدَ مَنْ قَوْمِهِ مَنْ يُحَاوِلُ رَدَّهُ عَنْ هَذَا الْبَغْيِ، وَرَجَّعَهُ إِلَى النَّهْجِ الْقَوِيمِ، الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّهُ فِي التَّصَرُّفِ بِهَذَا الثَّرَاءِ; وَهُوَ نَهْجٌ لَا يَحْرِمُ الْأَثْرِيَاءَ ثَرَاءَهُمْ; وَلَا يَحْرِمُهُمُ الْمَتَاعَ الْمُعْتَدِلَ بِمَا وَهَبَهُمُ اللَّهُ مِنْ مَالٍ; وَلَكِنَّهُ يَفْرِضُ عَلَيْهِمُ الْقَصْدَ وَالِاعْتِدَالَ; وَقَبْلَ ذَلِكَ يَفْرِضُ عَلَيْهِمْ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، وَمُرَاعَاةِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ حِسَابٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ. إِنَّ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ .
وَفِي هَذَا الْقَوْلِ جِمَاعُ مَا فِي الْمَنْهَجِ الْإِلَهِيِّ الْقَوِيمِ مِنْ قِيَمٍ وَخَصَائِصَ تُفْرِدُهُ بَيْنَ سَائِرِ مَنَاهِجِ الْحَيَاةِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76لا تَفْرَحْ .. فَرَحَ الزَّهْوِ الْمُنْبَعِثِ مِنَ الِاعْتِزَازِ بِالْمَالِ، وَالِاحْتِفَالِ بِالثَّرَاءِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالْكُنُوزِ، وَالِابْتِهَاجِ بِالْمِلْكِ وَالِاسْتِحْوَاذِ، لَا تَفْرَحُ فَرَحَ الْبَطَرِ الَّذِي يُنْسِي الْمُنْعِمَ بِالْمَالِ; وَيُنْسِي نِعْمَتَهُ، وَمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرَانِ، لَا تَفْرَحُ فَرَحَ الَّذِي يَسْتَخِفُّهُ الْمَالُ، فَيَشْغَلُ بِهِ قَلْبَهُ، وَيَطِيرُ لَهُ لُبَّهُ، وَيَتَطَاوَلُ بِهِ عَلَى الْعِبَادِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=76إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ .. فَهُمْ يَرُدُّونَهُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، الَّذِي لَا يُحِبُّ الْفَرَحَيْنِ الْمَأْخُوذَيْنِ بِالْمَالِ، الْمُتَبَاهِينَ، الْمُتَطَاوِلِينَ بِسُلْطَانِهِ عَلَى النَّاسِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .. وَفِي هَذَا يَتَمَثَّلُ اعْتِدَالَ الْمَنْهَجِ الْإِلَهِيِّ الْقَوِيمِ، الْمَنْهَجُ الَّذِي يُعَلَّقُ قَلْبَ وَاجِدِ الْمَالِ بِالْآخِرَةِ، وَلَا يَحْرِمُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقِسْطٍ مِنَ الْمَتَاعِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، بَلْ يَحُضُّهُ عَلَى هَذَا وَيُكَلِّفُهُ إِيَّاهُ تَكْلِيفًا، كَيْ لَا يَتَزَهَّدُ الزُّهْدَ الَّذِي يُهْمِلُ الْحَيَاةِ وَيُضْعِفُهَا.
لِقَدْ خَلَقَ اللَّهُ طَيِّبَاتِ الْحَيَاةِ لِيَسْتَمْتِعَ بِهَا النَّاسُ; وَلِيَعْمَلُوا فِي الْأَرْضِ لِتَوْفِيرِهَا وَتَحْصِيلِهَا، فَتَنْمُو الْحَيَاةُ وَتَتَجَدَّدُ، وَتَتَحَقَّقُ خِلَافَةُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَكُونَ وُجْهَتَهُمْ فِي هَذَا الْمَتَاعِ هِيَ الْآخِرَةُ، فَلَا يَنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِهَا، وَلَا يُشْغَلُونَ بِالْمَتَاعِ عَنْ تَكَالِيفِهَا، وَالْمَتَاعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ، وَتَقَبُّلٍ لِعَطَايَاهُ، وَانْتِفَاعٍ بِهَا، فَهُوَ طَاعَةٌ مِنَ الطَّاعَاتِ يُجْزِي عَلَيْهَا اللَّهُ بِالْحُسْنَى.
وَهَكَذَا يُحَقِّقُ هَذَا الْمَنْهَجُ التَّعَادُلَ وَالتَّنَاسُقَ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَيُمَكِّنُهُ مِنَ الِارْتِقَاءِ الرُّوحِيِّ الدَّائِمِ مِنْ خِلَالِ حَيَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ الْمُتَعَادِلَةِ، الَّتِي لَا حِرْمَانَ فِيهَا، وَلَا إِهْدَارَ لِمُقَوِّمَاتِ الْحَيَاةِ الْفِطْرِيَّةِ الْبَسِيطَةِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ .. فَهَذَا الْمَالُ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ وَإِحْسَانٌ، فَلْيُقَابَلْ بِالْإِحْسَانِ فِيهِ، إِحْسَانُ التَّقَبُّلِ وَإِحْسَانُ التَّصَرُّفِ، وَالْإِحْسَانِ بِهِ إِلَى الْخُلُقِ، وَإِحْسَانُ الشُّعُورِ بِالنِّعْمَةِ، وَإِحْسَانُ الشُّكْرَانِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ .. الْفَسَادُ بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ. وَالْفَسَادُ بِالْمَتَاعِ الْمُطْلَقِ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ وَمُرَاعَاةُ الْآخِرَةِ، وَالْفَسَادُ بِمَلْءِ صُدُورِ النَّاسِ بِالْحَرَجِ وَالْحَسَدِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالْفَسَادُ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ أَوْ إِمْسَاكِهِ عَنْ وَجْهِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ .. كَمَا أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَرَحَيْنِ.
[ ص: 2712 ] كَذَلِكَ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: فَكَانَ رَدُّهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، تَحْمِلُ شَتَّى مَعَانِي الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78قَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي !إِنَّمَا أُوتِيتُ هَذَا الْمَالَ اسْتِحْقَاقًا عَلَى عِلْمَيَ الَّذِي طَوَّعَ لِي جَمْعَهُ وَتَحْصِيلَهُ، فَمَا لَكُمْ تُمْلُونَ عَلَيَّ طَرِيقَةً خَاصَّةً فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَتَتَحَكَّمُونَ فِي مِلْكِيَّتِيَ الْخَاصَّةَ، وَأَنَا إِنَّمَا حَصَّلْتُ هَذَا الْمَالَ بِجُهْدِيَ الْخَاصِّ، وَاسْتَحْقَقْتُهُ بِعِلْمِيَ الْخَاصِّ؟
إِنَّهَا قَوْلَةُ الْمَغْرُورِ الْمَطْمُوسِ الَّذِي يَنْسَى مَصْدَرَ النِّعْمَةِ وَحِكْمَتِهَا، وَيَفْتِنُهُ الْمَالُ وَيُعْمِيهِ الثَّرَاءُ.
وَهُوَ نَمُوذَجٌ مُكَرَّرٌ فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَكَمْ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّأَنَّ عِلْمَهُ وَكَدَّهُ هُمَا وَحْدَهُمَا سَبَبُ غِنَاهُ، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ غَيْرُ مَسْؤُولٍ عَمَّا يُنْفِقُ وَمَا يُمْسِكُ، غَيْرُ مُحَاسِبٍ عَلَى مَا يُفْسِدُ بِالْمَالِ وَمَا يَصْلُحُ، غَيْرُ حَاسِبٍ لِلَّهِ حِسَابًا، وَلَا نَاظِرٍ إِلَى غَضَبِهِ وَرِضَاهُ!
وَالْإِسْلَامُ يَعْتَرِفُ بِالْمِلْكِيَّةِ الْفَرْدِيَّةِ، وَيُقَدِّرُ الْجُهْدَ الْفَرْدِيَّ الَّذِي بُذِلَ فِي تَحْصِيلِهَا مِنْ وُجُوهِ الْحَلَالِ الَّتِي يُشَرِّعُهَا; وَلَا يُهَوِّنُ مِنْ شَأْنِ الْجُهْدِ الْفَرْدِيُّ أَوْ يُلْغِيهِ، وَلَكِنَّهُ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ يَفْرِضُ مَنْهَجًا مُعَيَّنًا لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِيَّةِ الْفَرْدِيَّةِ - كَمَا يَفْرِضُ مَنْهَجًا لِتَحْصِيلِهَا وَتَنْمِيَتِهَا - وَهُوَ مَنْهَجٌ مُتَوَازِنٌ مُتَعَادِلٌ، لَا يَحْرِمُ الْفَرْدَ ثَمَرَةَ جُهْدِهِ، وَلَا يُطْلِقُ يَدَهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ حَتَّى التَّرَفِ وَلَا فِي إِمْسَاكِهِ حَتَّى التَّقْتِيرِ; وَيَفْرِضُ لِلْجَمَاعَةِ حُقُوقَهَا فِي هَذَا الْمَالِ، وَرِقَابَتِهَا عَلَى طُرُقِ تَحْصِيلِهِ، وَطُرُقِ تَنْمِيَتِهِ، وَطَرَقَ إِنْفَاقِهِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، وَهُوَ مَنْهَجٌ خَاصٌّ وَاضِحُ الْمَلَامِحِ مُتَمَيِّزُ السِّمَاتِ.
وَلَكِنَّ قَارُونَ لَمْ يَسْتَمِعْ لِنِدَاءِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ، وَلَمْ يَخْضَعْ لِمَنْهَجِهِ الْقَوِيمِ، وَأُعْرِضُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ فِي اسْتِكْبَارٍ لَئِيمٍ وَفِي بَطَرٍ ذَمِيمٍ.
وَمِنْ ثَمَّ جَاءَهُ التَّهْدِيدُ قَبْلَ تَمَامِ الْآيَةِ، رَدًّا عَلَى قَوْلَتِهِ الْفَاجِرَةِ الْمَغْرُورَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا؟ وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ .
فَإِنْ كَانَ ذَا قُوَّةٍ وَذَا مَالٍ، فَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِهِ أَجْيَالًا كَانَتْ أَشَدَّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرَ مَالًا، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ هَذَا، فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الْمُنَجِّيُّ، فَلْيَعْلَمْ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّهُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ حَتَّى مِنْ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، فَلَيْسُوا هُمُ الْحَكَمَ وَلَا الْأَشْهَادَ!
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=78وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ !
ذَلِكَ كَانَ الْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ مِنْ مَشَاهِدِ الْقِصَّةِ، يَتَجَلَّى فِيهِ الْبَغْيُ وَالتَّطَاوُلُ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ النُّصْحِ، وَالتَّعَالِي عَلَى الْعِظَةِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْفَسَادِ، وَالِاغْتِرَارِ بِالْمَالِ، وَالْبَطَرِ الَّذِي يَقْعُدُ بِالنَّفْسِ عَنِ الشُّكْرَانِ.
ثُمَّ يَجِيءُ الْمَشْهَدُ الثَّانِي حِينَ يَخْرُجُ
قَارُونُ بِزِينَتِهِ عَلَى قَوْمِهِ، فَتَطِيرَ لَهَا قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَتَتَهَاوَى لَهَا نُفُوسُهُمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ مِثْلَ مَا أُوتِيَ
قَارُونُ، وَيُحِسُّونَ أَنَّهُ أُوتِيَ حَظًّا عَظِيمًا يَتَشَهَّاهُ الْمَحْرُومُونَ، ذَلِكَ عَلَى حِينِ يَسْتَيْقِظُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَيَعْتَزُّونَ بِهِ عَلَى فِتْنَةِ الْمَالِ وَزِينَةِ
قَارُونَ، وَيَذْكُرُونَ إِخْوَانَهُمُ الْمَبْهُورَيْنِ الْمَأْخُوذَيْنِ، فِي ثِقَةٍ وَفِي يَقِينٍ: