باب صلاة السفر قال الله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فأباح الله تعالى القصر المذكور في هذه الآية بمعنيين :
[ ص: 230 ] أحدهما : السفر وهو الضرب في الأرض ، والآخر : الخوف . واختلف السلف في المذكور فيها ما هو ؟ فروي عن معنى القصر قال : ابن عباس . فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين والخوف ركعة على لسان نبيكم عليه السلام
وروى يزيد الفقير عن قال صلاة الخوف ركعة ركعة " . وروي عن جابر أنه قصر العدد من أربع إلى ثنتين . مجاهد
وروى عن ابن جريج عن ابن طاوس أبيه قال : " قصرها في الخوف والقتال والصلاة في كل حال راكبا وماشيا ، فأما صلاة النبي عليه السلام وصلاة الناس في السفر ركعتين فليس بقصر " .
وروي عن رواية أخرى غير ما قدمنا في القصر ، وهي أنه قال : " إنما هو قصر حدود الصلاة وأن تكبر وتخفض رأسك وتومئ إيماء " قال ابن عباس : وأولى المعاني وأشبهها بظاهر الآية ما روي عن أبو بكر ابن عباس في أنه قصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء وترك القيام إلى الركوع ، وجائز أن يسمى المشي في الصلاة قصرا ؛ إذ كان مثله في غير الخوف يفسدها . وطاوس
وما روي عن ابن عباس في أن صلاة الخوف ركعة فمحمول على أن الذي يصليه المأموم مع الإمام ركعة ؛ لأنه يجعل الناس طائفتين فيصلي بالتي معه ركعة ثم يمضون إلى تجاه العدو ، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بها ركعة ويسلم بتلك ، فيصير لكل طائفة من المأمومين ركعة ركعة مع الإمام ، ثم يقضون ركعة ركعة ؛ فيكون ما روي عن وجابر في أنه قصر في صفة الصلاة غير مخالف لقوله : إن صلاة الخوف ركعة ؛ لأن الآثار قد تواترت في فعل النبي عليه السلام لصلاة الخوف مع اختلافها ، وكلها موجبة للركعتين وليس في شيء منها أنه صلاها ركعة ، إلا أنها لكل طائفة ركعة مع الإمام والقضاء لركعة دون الاقتصار على واحدة . ابن عباس
ولو كانت صلاة الخوف ركعة واحدة لما اختلف حكم النبي عليه السلام وحكم المأمومين فيها ، فلما نقل وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ، علمنا أن فرض صلاة الخائف كفرض غيره وأن ما روي من أنه كان للقوم ركعة ركعة على معنى أنها كانت ركعة ركعة مع النبي عليه السلام وأنهم قضوا ركعة ركعة على ما روي في سائر الأخبار . ابن عباس
والدليل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في صفة الصلاة أو المشي والاختلاف فيها على النحو الذي قدمنا ذكره دون أعداد ركعاتها وأن مذهب في القصر ما وصف دون نقصان عدد الركعات ، ما روى ابن عباس أن رجلا جاء إلى مجاهد فقال : إني وصاحب لي خرجنا في سفر فكنت [ ص: 231 ] أتم وكان صاحبي يقصر ، فقال ابن عباس : أنت الذي تقصر وصاحبك الذي كان يتم . فأخبر ابن عباس أن القصر ليس في عدد الركعات ، وأن الركعتين في السفر ليستا بقصر . ابن عباس
ويدل على ذلك ما روى عن سفيان زبيد اليامي عن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : عمر ، وقد دخل في ذلك صلاة الخوف في السفر ؛ لأنه ذكر جميع هذه الصلوات وأخبر أنها تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فثبت بذلك أن القصر المذكور في الآية هو على ما وصف دون أعداد ركعات الصلاة . صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه السلام
فإن قيل : روي عن أنه قال : قلت يعلى بن أمية : كيف نقصر وقد أمنا وقال الله تعالى : لعمر بن الخطاب فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ؟ فقال : عجبت مما عجبت منه ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : . فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية . صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
قيل له : لما كان اللفظ محتملا للمعنيين من أعداد ركعات الصلاة ومن صفتها على الوجه الذي بينا لم يمتنع أن يكون قد سبق في وهم عمر ويعلى بن أمية ما ذكر ، وأن سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القصر في حال الأمن لا على أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن قصر الآية هو في العدد فأجابه بما وصف ؛ ولكنه جائز أن يكون قال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف نقصر وقد أمنا ، من غير أن يذكر له تأويل الآية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يقصر في مغازيه ، ثم قصر في الحج في حال الأمن وزوال القتال ، فقال : عمر . صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
يعني أن الله قد أسقط عنكم في السفر فرض الركعتين في حال الخوف والأمن جميعا . وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر أنها تمام غير قصر ، فجائز أن يكون ظن بديا أن قصر الخوف هو في عدد الركعات ، فلما سمعه يقول : عمر علم أن قصر الآية إنما هو في صفة الصلاة لا في عدد الركعات . وإذا صح بما وصف أن المراد بالقصر ما ذكرنا لم تكن في الآية دلالة على فرض المسافر ولا على أنه مخير بين الإتمام والقصر ؛ إذ لا ذكر له في الآية . صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر
وقد اختلف الفقهاء في ، فقال فرض المسافر أبو حنيفة وأبو يوسف : " فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث ، فإن ومحمد فسدت صلاته ، وإن قعد فيهما مقدار التشهد تمت صلاته ، بمنزلة من صلى الفجر أربعة بتسليمة " وهو قول [ ص: 232 ] صلى المسافر أربعة ولم يقعد في الاثنين وقال الثوري : " إذا صلى أربعا أعاد " وقال حماد بن أبي سليمان : " إذا صلى أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير ، فإذا طال في سفره وكثر لم يعد " قال : " وإذا افتتح الصلاة على أن يصلي أربعا استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على ركعتين ، " وإن صلى ركعتين وتشهد ، ثم بدا له أن يتم فصلى أربعا أعاد ، وإن نوى أن يصلي أربعا بعد ما افتتح الصلاة على ركعتين ، ثم بدا له فسلم في الركعتين أجزته " . الحسن بن صالح
وقال : " إذا صلى المسافر أربعا فإنه يعيد ما دام في الوقت ، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه " قال : " ولو أن مسافرا افتتح المكتوبة ينوي أربعا فلما صلى ركعتين بدا له فسلم ، أنه لا يجزيه ، ولو صلى مسافر بمسافرين فقام في الركعتين فسبحوا به فلم يرجع فإنهم يقعدون ويتشهدون ولا يتبعونه " . وقال مالك : " يصلي المسافر ركعتين فإن قام إلى الثالثة وصلاها فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو " . الأوزاعي
وقال : " ليس للمسافر أن يصلي ركعتين إلا أن ينوي القصر مع الإحرام ، فإذا أحرم ولم ينو القصر كان على أصل فرضه أربعا " قال الشافعي : قد بينا أنه ليس في الآية حكم القصر في أعداد الركعات ، ولم يختلف الناس في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره كلها في حال الأمن والخوف ، فثبت أن فرض المسافر ركعتان بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبيانه لمراد الله تعالى ، قال أبو بكر : عمر بن الخطاب سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن القصر في حال الأمن ، فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته .
وصدقة الله علينا هي إسقاطه عنا ، فدل ذلك على أن الفرض ركعتان ؛ وقوله : " فاقبلوا صدقته " يوجب ذلك ؛ لأن الأمر للوجوب ، فإذا كنا مأمورين بالقصر فالإتمام منهي عنه .
وقال : عمر بن الخطاب فأخبر أن الفرض ركعتان وأنه ليس بقصر بل هو تمام ، كما ذكر صلاة الفجر والجمعة والأضحى والفطر وعزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصار ذلك بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وذلك ينفي صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر . وروي عن التخيير بين القصر والإتمام قال : ابن عباس . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين حتى يرجع
وروى علي بن زيد عن عن أبي نضرة قال : عمران بن حصين المدينة ، وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين ، وقال لأهل مكة : صلوا أربعا فإنا قوم سفر . حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى
وقال : ابن عمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى ، وقد قال الله تعالى : [ ص: 233 ] وعثمان لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة . صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين ، وصحبت
وروى قال : حدثنا بقية بن الوليد أبان بن عبد الله عن خالد بن عثمان عن عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عمر بن الخطاب صلاة المسافر ركعتان حتى يئوب إلى أهله أو يموت .
وقال : عبد الله بن مسعود بمنى ركعتين ، ومع ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين عمر . وقال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم مورق العجلي : سئل عن الصلاة في السفر ، فقال : " ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر " . فهذه أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في فعل الركعتين في السفر لا زيادة عليهما ، وفي ذلك الدلالة من وجهين على أنهما فرض المسافر : ابن عمر
أحدهما : أن فرض الصلاة مجمل في الكتاب مفتقر إلى البيان ، وفعل النبي عليه السلام إذا ورد على وجه البيان فهو كبيانه بالقول يقتضي الإيجاب ، وفي فعله صلاة السفر ركعتين بيان منه أن ذلك مراد الله ، كفعله لصلاة الفجر وصلاة الجمعة وسائر الصلوات .
والوجه الثاني : لو كان مراد الله الإتمام أو القصر على ما يختاره المسافر لما جاز للنبي عليه السلام أن يقتصر بالبيان على أحد الوجهين دون الآخر ، وكان بيانه للإتمام في وزن بيانه للقصر ، فلما ورد البيان إلينا من النبي عليه السلام في القصر دون الإتمام دل ذلك على أنه مراد الله دون غيره ألا ترى أنه لما كان مراد الله في رخصة المسافر في الإفطار أحد شيئين من إفطار أو صوم ورد البيان من النبي عليه السلام تارة بالإفطار وتارة بالصوم ؟
وأيضا بمنى أربعا أنكرت عليه الصحابة ذلك ، فقال عثمان : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع عبد الله بن مسعود ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ، ثم تفرقت بكم الطرق ، فلوددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان عمر ؛ وقال لما صلى : صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر ؛ وقال ابن عمر : أنا إنما أتممت ؛ لأني تأهلت بهذا البلد وسمعت النبي عليه السلام يقول : عثمان ، فلم يخالفهم من تأهل ببلد فهو من أهله في منع الإتمام وإنما اعتذر بأنه قد تأهل عثمان بمكة فصار من أهلها ؛ وكذلك قولنا في أهل مكة إنهم لا يقصرون .
وقال : " فرض الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين وفي الحضر أربعا " وقالت ابن عباس : " أول ما فرضت الصلاة ركعتان ركعتان ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على ما كانت عليه " ، فأخبرت أن فرض المسافر في الأصل ركعتان وفرض المقيم أربع كفرض صلاة الفجر وصلاة الظهر ، فغير جائز الزيادة عليها كما لا تجوز الزيادة على سائر الصلوات . ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على أن للمسافر ترك الأخريين [ ص: 234 ] لا إلى بدل ومتى فعلهما فإنما يفعلهما على وجه الابتداء ، فدل على أنهما نفل ؛ لأن هذه صورة النفل وهو أن يكون مخيرا بين فعله وتركه ، وإذا تركه تركه لا إلى بدل . عائشة
واحتج من خيره بين القصر والإتمام بما روي عن قالت : عائشة قصر رسول الله عليه السلام وأتم ، وهذا صحيح ، ومعناه أنه قصر في الفعل وأتم في الحكم ، كقول : عمر . واحتج أيضا من قال بالتخيير أنه لو دخل في صلاة مقيم لزمه الإتمام ، فدل على أنه مخير في الأصل . صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه السلام
وهذا فاسد ؛ لأن الدخول في صلاة الإمام يغير الفرض ، ألا ترى أن المرأة والعبد فرضهما يوم الجمعة أربع ولو دخلا في الجمعة صليا ركعتين ولم يدل ذلك على أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين ؟ وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في مواضع من كتبنا .
واختلفوا أيضا في ، فقال أصحابنا المسافر يدخل في صلاة المقيم والشافعي : " يصلي صلاة مقيم وإن أدركه في التشهد " وهو قول والأوزاعي . وقال الثوري : " وإذا لم يدرك معه ركعة صلى ركعتين " . مالك
والذي يدل على القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : فأمر النبي عليه السلام بقضاء الفائت من صلاة الإمام ، والذي فاته أربع ركعات فعليه قضاؤها ؛ وأيضا قد صح له الدخول في آخر صلاته ويلزمه سهوه وانتفى عنه سهو نفسه لأجل إمامه ، كذلك لزمه حكم صلاته في الإتمام . ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وفي بعض الألفاظ : وما فاتكم فاقضوا
وأيضا لو نوى المسافر الإقامة في هذه الحال لزمه الإتمام كذلك دخوله مع الإمام ، ويكون دخوله معه في التشهد كدخوله في أولها ، كما كانت نية الإقامة في التشهد كهي في أولها والله أعلم .