ولما تبين بهذا الآيات أن الدنيا مبنية على الفناء والزوال ، والقلعة والارتحال ، وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال تعالى مشيرا بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون : وما هذه الحياة الدنيا فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى أن الاعتراف بهذا الاسم كاف في الإلزام بالاعتراف بالأخرى.
ولما كان مقصود السورة الحث على الجهاد والنهي عن المنكر ، وكان في معرض سلب العقل عنهم ، قدم اللهو لأن الإعراض عنه يحسم مادة الشر فإنه الباعث عليه فقال : إلا لهو أي : شيء يلهي عما ينفع [ ص: 475 ] ولعب يشتغل به صبيان العقول ، وكل غافل وجهول ، فإن اللهو كل شيء من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء وغيره ، فيحصل به فرح وزيادة سرور ، فيكون سببا للغفلة والذهول والنسيان والشغل عن استعمال العقل في اتباع ما ينجي في الآخرة فينشأ عنه ضلال - على ما أشارت إليه آية لقمان - : يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ومنه اللعب ، وهو فعل ما يزيد النفس في دنياها سرورا كالرقص بعد السماع وينقضي بسرعة لأنه ضد الجد ومثل الهزل ، و[هو] كل شيء سافل ، وكل باطل يقصد به زيادة البسط والترويح والتمادي في قطع الزمان فيما يشتهي من غير تعب ، واللعبة بالضم- : التمثال ، وما يلعب به كالشطرنج ، والأحمق يسخر به ، ولعب لعبا : مرح ، وفي الأمر والدين : استخف به.
ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت ، أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها فقال : وإن الدار الآخرة لهي أي : خاصة الحيوان أي : الحياة التامة الباقية العامة الوافية نفسها من حيث أنه لا موت فيها ولا فناء لشيء من الأشياء ، ولذلك اختير هذا البناء الدال على المبالغة ، وحركته مشعرة بما في الحياة من مطلق الحركة والاضطراب ، فلا انقضاء لشيء من لعبها ولا لهواها الذي [لا] يوافق ما في الدنيا إلا في الصورة فقط [ ص: 476 ] لا في المعنى ، لأنه ليس فيها شيء سافل لا في الباعث ولا في المبعوث إليه ، بل كان ذلك بالتسبيح والتقديس وما يترتب عليه من المعارف والبسط والترويح ، والانشراح والأنس والتفريح.
ولما كانوا [قد] غلطوا في الدارين كلتيهما فأنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها ، فعدوا الدنيا وجودا دائما على هذا الحالة والآخرة عدما ، لا وجود لها بوجه ، قال : لو كانوا [أي : ] كونا هو كالجبلة يعلمون أي : لهم علم ما لم يغلطوا في واحدة منهما فلم يركبوا مع إيثارهم للحياة وشدة نفرتهم من الموت ، لاعتقادهم أن لا قيام بعده إلى الدنيا ، مع أن أصلها عدم الحياة الذي هو الموتان.


