الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      في بطلان ما رووه وتهافته بالحجج الدامغة

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القصة ما يقضي بالعجب ويبرهن على عدم الوثوق بها، كما قال تعالى: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [النساء: 157].

                                                                                                                                                                                                                                      قال البرهان البقاعي - رحمه الله - في "تفسيره" بعد (أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم، وقال: أحسن ما رد على الإنسان بما يعتقده) ما نصه: فقد بان لك أن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد، وهو الأسخريوطي ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه، وإنه إنما وضع يده عليه ولم يقل بلسانه إنه هو، وأن الوقت كان ليلا، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه: كلكم تشكون في هذه الليلة، وأن تلاميذه كلهم هربوا فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره، وإن بطرس إنما تبعه من بعيد، وإن الذي دل عليه خنق نفسه، وإن الناقل لأن الملك قال إنه قام من الأموات إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد، وما يدري النسوة الملك من غيره، ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن، وأما الآيات التي وقعت فعلى تقدير تسليمها لا يضرنا التصديق بها.... وتكون لجراءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح ، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه، ويدل على أن المصلوب - إن صح أنهم صلبوه - من ظنوه إياه، هو الذي دل عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1661 ] قال بعض العلماء: إنه ألقي شبهه عليه، ويؤيد ذلك قولهم: إنه خنق نفسه، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه: فجزموا به، والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال العلامة خير الدين الآلوسي في "الجواب الفسيح": اعلم أن ما ذكره هذا النصراني من أن المسيح - عليه السلام - مات بجسده، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أنزل ودفن، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد، ثم انبعث حيا بلاهوته وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات، وظهر بعد لحوارييه .... إلى آخر ما قاله - هو ما أجمع عليه النصارى.

                                                                                                                                                                                                                                      ويرد ذلك العقل والنقل، وإن صدقتهم اليهود في قتله، فاستمع من المنقول ما يتلى عليك بأذن واعية، وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية، على أن المقتول هو الشبه، وأن الحال عند صالبيه اشتبه، وأن المسيح رفعه الله تعالى قبل القتل إليه؛ لشرفه عنده ومكانته لديه، قال الله تعالى في بيان حال اليهود: وما قتلوه وما صلبوه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله أأنت المسيح ابن الله؟ فقال له: أنت قلت، ولم يجبه بأنه المسيح ، فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له: نعم، ولم يور ولم يتلعثم، وهو محلف بالله، لا سيما وهو بزعمهم الإله، الذي نزل لخلاص عباده بإفداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال لوقا في الفصل التاسع من إنجيله.

                                                                                                                                                                                                                                      28 - إن المسيح صعد قبل الصلب إلى جبل الخليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا .

                                                                                                                                                                                                                                      29 - فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه وصارت تلمع كالبرق.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1662 ] 30 - وإذا موسى بن عمران وإيليا .

                                                                                                                                                                                                                                      31 - قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      32 - وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا من أوضح الدلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به؛ إذ لا معنى لظهور موسى وإيليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه، ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه - عليه السلام - أن إيليا يأتي، فلما رفعوه على الخشبة - كما في الأناجيل - قالوا: دعوه حتى نرى أن إيليا يأتي فيخلصه، فصاروا في شك يريدون تحقيقه، فإن أتى إيليا فما رفعوه هو المسيح، وإن لم يأت فهو غيره كما في ظنهم، فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره، ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم يجوز أن يكون طورا من أطوار روحه؛ لأنه - عليه السلام - لا يبعد أن يكون له قوة التطور، وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن، لا سيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك، كإحياء الموتى، وكثرة الخبز والحيتان، وإبراء الأكمه، والأبرص.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال يوحنا التلميذ :

                                                                                                                                                                                                                                      1 - كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهود في طلبه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1663 ] 4 - فخرج إليهم يسوع وقال لهم: من تريدون؟

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا: يسوع (وقد خفي شخصه عنهم) قال: أنا يسوع، وفعل ذلك مرتين، وقد أنكروا صورته.

                                                                                                                                                                                                                                      فانظر - أيها العاقل - كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولى حراسته منهم، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء، وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه، فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح أيضا على أن ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقض في ألفاظها، كدعواهم الألوهية مع قوله - عليه الصلاة والسلام – (عند صلبه بزعمهم): إلهي! إلهي! لم تركتني، وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من إنجيل متى : يا أبتاه إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس - أي: الموت - ولا بد لي أن أشربها فلتكن مشيئتك، وقام يصلي، وقوله لرئيس الكهنة: إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء، يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الفصل السابع من إنجيل يوحنا : إن الفريسيين ورؤساء الكهنة أرسلوا شرطا ليقبضوا على المسيح (يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم) قال: أنا ماكث أيضا معكم زمانا، ثم [ ص: 1664 ] أنطلق إلى من أرسلني وتطلبوني فلا تجدوني، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلا، قال اليهود في ذواتهم: فإلى أين؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن؟ قال مفسروهم أي: يصعد إلى السماء، وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم نقل خير الدين نحوا مما أسلفناه عن أناجيلهم، وقال بعد ذلك: فأجل في تناقضها قداح فكرك، وفي تهافتها خيول ذهنك؛ لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلا ونقلا، كما قال تعالى: ولكن شبه لهم وليتبين لك عبوديته ورسالته - عليه السلام - فإن ذلك ظاهر من العبارات، ولنزدك في البيان وضوحا بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحا ومشروحا.

                                                                                                                                                                                                                                      منها: قولهم إنه صلب قبل غروب يوم الجمعة ودفن مساءها، ولما جاءت النسوة عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد وجدنه فارغا، وقد قام منه المدفون، مع أن النصارى يزعمون - كما في أناجيلهم - أنه يبقى في قبره ثلاثة أيام، كما بقي يونان - أي: يونس - في بطن الحوت ثلاثة أيام بلياليها، فما هذا إلا دليل على الاختلاف والتهافت في الأمر.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: سؤاله اليهود مرتين من تطلبون؟ وهم يقولون: يسوع الناصري، فلم يعرفوه وهو يقول لهم: أنا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه، وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده، فلو كان معلوما لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال، مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له: أنا المسيح ، بل قال له: أنت قلت.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1665 ] ومنها: إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله، وإنكاره كفر.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أنه لما سأله الوالي: أنت هو؟ لم يرد له جوابا، فلو كان هو لاعترف وأقر.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أنه لما كان أخذه ليلا، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه، فكيف بين الشيء وشبهه؟ فمن أين يحصل القطع بأنه هو؟ لا سيما والنصارى قد حكموا أن المسيح - عليه السلام - قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة، ويحتمل أن المسيح ذهب في الجماعة الذين أطلقهم الأعوان، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى؛ وقاية للمسيح ، فألقى الله تعالى عليه الشبه، وأتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم، وهذا فدى نفسه لإلهه بزعم النصارى.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه، وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح، والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: قوله - عليه السلام - الذي تقدم آنفا: أنا ماكث معكم زمانا، ثم أنطلق إلى من أرسلني، فتطلبوني فلا تجدوني، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلا، فهذا صريح في أنهم سيطلبونه ولا يجدونه ولا ينالون منه شيئا؛ لأنه سيصعد إلى السماء، ومثله في الفصل الثاني عشر من "إنجيل يوحنا" ما لفظه: قال له الجموع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد، فكيف تقول أنت أن ابن البشر سوف يرتفع من هو هذا ابن البشر؟

                                                                                                                                                                                                                                      قال لهم يسوع: إن النور معكم زمانا آخر يسيرا، امشوا ما دام لكم النور؛ لئلا يدرككم الظلام، ومن يمش في الظلام فلا يدر أين يذهب، آمنوا بالنور ما دام لكم النور، قال يسوع هذا، وذهب متواريا عنهم. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى: بل رفعه الله إليه [النساء: 158].

                                                                                                                                                                                                                                      منها: أن اليهود قالوا لعيسى: إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1666 ] أي: فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان، بل تبقى إلى قيام الساعة، ولم يكذبهم في نقلهم ذلك، والمسلمون يقولون: إنه رفع حيا إلى السماء وهو الآن حي فيها، وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة، ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية، ويتوفى ويدفن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حي إلى الأبد، يعني إلى قرب قيام الساعة، ونزوله وموته من أمارات الساعة الكبرى، وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضا على أنه ليس بإله:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه قال: ابن البشر، يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وإن أحييت الموتى؛ لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يده للإيمان بنبوته.

                                                                                                                                                                                                                                      ثانيها: لو كان إلها لما توارى منهم خائفا من قتلهم له؛ لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم، وعالم بزمن قدرتهم عليه، فكيف يفر وهو يعلم وقت موته؟ وهو خالق الموت والحياة؟!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه، ويرفعه إليه محفوظا مكرما، كما أجرى على يديه إحياء الموتى، وخلقه من غير أب، وأبرأ الأكمه والأبرص، لا سيما وهو بزعمهم إله العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم، فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الإهانة والعذاب - على ما زعموا - لرب الأرباب، مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب.


                                                                                                                                                                                                                                      عجبا للمسيح بين النصارى وإلى أي والد نسبوه     أسلموه إلى اليهود وقالوا
                                                                                                                                                                                                                                      إنهم بعد ضربه صلبوه     فإذا كان ما يقولون حقا
                                                                                                                                                                                                                                      وصحيحا فأين كان أبوه؟     حين خلى ابنه رهين الأعادي
                                                                                                                                                                                                                                      أتراهم أرضوه أم أغضبوه؟     فلئن كان راضيا بأذاهم
                                                                                                                                                                                                                                      فاحمدوهم لأنهم عذبوه     ولئن كان ساخطا فاتركوه
                                                                                                                                                                                                                                      واعبدوهم لأنهم غلبوه



                                                                                                                                                                                                                                      وفي كتاب "الفاصل بين الحق والباطل" ما نصه: وفي الذي اتخذتموه شهيدا على صلبه من [ ص: 1667 ] كلام عاموص النبي أن الله تعالى قال على لسانه: ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل، والرابعة لا أقبلها، بيعهم الرجل الصالح - حجة عليكم لا لكم؛ لأنه لم يقل: بيعهم إياي، ولا قال: بيعهم إلها متساويا معي.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجري تأويل ذلك على وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون فقولوا حينئذ إنه (الرجل الصالح) كما قال عاموص، وليس بالإله المعبود، وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه، ويلزمكم وقتئذ إنكار صلوبية عيسى - عليه السلام - كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى - عليه السلام - ووقوع الشبه على غيره، وذلك من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: يوجد في الإنجيل أن عيسى - عليه السلام - صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا، فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه، وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق، وإذا بموسى بن عمران وإيليا قد ظهرا له، وجاءت سحابة فأظلتهم، فوقع النوم على الذين معه، فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود، وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك، وغيرتم الكلم عن مواضعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وظهور الأنبياء - عليهم السلام - وتظليل السحابة، ووقوع النوم على التلاميذ - يكون حينئذ دليلا ظاهرا على الرفع إلى السماء وعدم الصلب، وإلا فلا معنى لظهور هذه الآيات.

                                                                                                                                                                                                                                      وثانيها: ما في الإنجيل أيضا أن المصلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلا مضافا بمر، فذاقه ولم يشربه، فنادى: إلهي إلهي لم خذلتني؟ والأناجيل كلها مصرحة بأنه - عليه السلام - كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة، ويقول للتلاميذ: إني لي طعاما لستم تعرفونه، ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يوما وليلة كيف يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد؟! هذا لا يفعله أدنى الناس فكيف بخواص الأنبياء؟! أو كيف بالرب على ما تدعونه؟! فيكون حينئذ المدعي للعطش غيره، وهو الذي شبه لكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وثالثها: قوله: إلهي إلهي لم خذلتني وتركتني؟ هو كلام يقتضي عدم الرضا بالقضاء، وعدم [ ص: 1668 ] التسليم لأمر الله تعالى، وعيسى - عليه السلام - منزه عن ذلك، فيكون المصلوب غيره، لا سيما وأنتم تقولون: إن المسيح - عليه السلام - إنما نزل ليؤثر العالم على نفسه، ويخلصه من الشيطان ورجسه، فكيف تروون عنه ما يؤدي إلى خلاف ذلك، مع روايتكم في توراتكم أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون - عليهم السلام - لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم، فرحين بانقلابهم إلى سعيهم، لم يجزعوا من الموت ولم يستقيلوا منه، ولم يهابوا مذاقه، مع أنهم عبيده، والمسيح بزعمكم ولد ورب، فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم، ولما لم يكن كذلك دل على أن المصلوب غيره، وهو الذي شبه لكم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية