الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      فيما روي عن سلفنا الكرام - رضي الله عنهم - في تفسير هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي - رحمه الله تعالى - في (تفسيره) هنا ما نصه: وكان من خبر اليهود - عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه - أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله عز وجل، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه، وخالفوه، وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل نبي الله عيسى - عليه السلام - لا يساكنهم في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه - عليهما السلام - ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان، وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب [ ص: 1669 ] امتثل والي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى - عليه السلام - وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر، وقيل: سبعة عشر نفرا.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت فحصروه هنالك، فلما أحس بهم، وأنه لا محالة من دخولهم عليه، أو خروجه إليهم - قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم، فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال: أنت هو، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى - عليه السلام - سنة من النوم فرفع إلى السماء، وهو كذلك كما قال الله تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما رفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك النفر ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم ، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال: إنه خاطبها، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا كله من امتحان الله عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات، والدلائل الواضحات، فقال تعالى وهو أصدق القائلين، ورب العالمين المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السماوات والأرض، العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم أي: رأوا شبهه فظنوا أنه إياه ولهذا قال: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ ص: 1670 ] يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم من جهال النصارى، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر ولهذا قال: وما قتلوه يقينا أي: وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا أي: منيع الجناب لا يرام جنابه، ولا يضام من لاذ ببابه حكيما أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، والسلطان العظيم، والأمر القديم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: «لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه، وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا، فقال: هو أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق:

                                                                                                                                                                                                                                      فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم».

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه النسائي ، عن أبي كريب ، عن أبي معاوية ، نحوه.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال لهم: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1671 ] وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت، فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليه صورهم الله - عز وجل - كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم: سحرتمونا، لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا، فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فخرج إليهم، وقال: أنا عيسى ، وقد صوره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فمن ثم شبه لهم فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : وهذا سياق غريب جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال ابن جرير : وقد روي عن وهب نحو هذا القول، وهو ما حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا إسماعيل، عن عبد الكريم ، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت، وشق عليه، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما فقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم، ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه فتعاظموا ذلك وتكارهوه.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال: ألا من رد علي الليلة شيئا مما أصنع فليس مني، ولا أنا منه، فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي الليلة التي استعنتكم عليها فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله! أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها؟! فقالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمر فنكثر السمر، [ ص: 1672 ] وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى نفسه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: الحق، ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني، فخرجوا فتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، وأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا: هذا من أصحابه فجحد وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى - عليه السلام - فأبرأها الله من الجنون - جاءتا تبكيان حيث المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان؟ فقالتا عليك، فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خيرا، وإن هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب لتاب الله عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحنى، فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه يصبح كل إنسان يحدث بلغة قوم، فلينذرهم وليدعهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : سياق غريب جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جريج ، عن مجاهد : صلبوا رجلا شبه بعيسى ، ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء حيا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية