ثم الكلام في التيمم ينحصر في ثلاثة أطراف : الأول في أسبابه وقد مر الكلام عليها ، الثاني في كيفيته ، الثالث في أحكامه .
وقد شرع في الكلام على الطرف الثاني فقال : فصل في بيان أركان التيمم وكيفيته وغير ذلك مما سيأتي ( يتيمم بكل تراب ) فلا يجزئ بغيره من أجزاء الأرض أو ما اتصل بها لقوله تعالى { فتيمموا صعيدا طيبا } قال ابن عباس وغيره : أي ترابا طاهرا ، ولخبر مسلم { جعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها طهورا } والتربة من أسماء التراب ، وجاء بلفظ التراب في رواية الدارقطني وصححها أبو عوانة { جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا } [ ص: 290 ] وكون مفهوم اللقب ليس بحجة محله حيث لا قرينة كما صرح به الغزالي في المنخول ، وهنا قرينتان : العدول إلى التراب في الطهورية بعد ذكر جميعها في المسجدية ، وكون السياق للامتنان المقتضي تكثير ما يمتن به .
فلما اقتصر على التراب دل على اختصاصه بالحكم ، وطهارة التيمم تعبدية فاختصت بما ورد كالوضوء ، بخلاف الدباغ فإنه نزع الفضول وهو يحصل بأنواع ( طاهر ) أراد به ما يشمل الطهور بدليل قوله الآتي : ولا بمستعمل لقوله تعالى { صعيدا طيبا } ومر تفسيره بالتراب الطاهر .
وقال الشافعي رضي الله عنه : تراب له غبار ، وقوله حجة في اللغة ، ويؤيده قوله تعالى { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } إذ الإتيان بمن المفيدة للتبعيض يقتضي أن يمسح بشيء يحصل على الوجه واليدين بعضه ، وقول بعض الأئمة إنها لابتداء الغاية فلا يشترط تراب ضعفه الزمخشري [ ص: 291 ] بأن أحدا من العرب لا يفهم من قول القائل مسح برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض والإذعان للحق أحق من المراء ا هـ .
ويدل له من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم { جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا } رواه مسلم كما مر وهي مبينة للرواية المطلقة في قوله { وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ودخل في التراب سائر أنواعه ولو أصفر أو أعفر أو أحمر أو أسود أو أبيض ( حتى ما يداوى به ) كالأرمني والسبخ الذي لا ينبت دون الذي يعلوه ملح ، وما أخرجته الأرضة من مدر لأنه تراب لا من خشب ، إذ لا يسمى ترابا ، ولا أثر لامتزاجه بلعابها كطين عجن بنحو خل ثم جف فإنه يجزئ ، وإن تغيرت رائحته وطعمه ولونه .
نعم لا بد أن يكون له غبار ، ولم يذكره كثير لأنه الغالب فيه ، ولا لتغير حمأة كطين شوي حتى اسود لا إن صار رمادا ، ولا يجزئ التيمم بنجس كتراب مقبرة علم نبشها وإن أصابه مطر ، فإن لم يعلم جاز بلا كراهة ، وكتراب على ظهر كلب أو خنزير علم اتصاله به رطبا .
ولا بمختلط بنجس كفتات الروث ، وقول أبي الطيب : لو وقعت ذرة نجاسة في صبرة تراب كبيرة تحرى وتيمم مبني على ضعيف وهو عدم اشتراط التعدد في التحري ، والأصح خلافه [ ص: 292 ] فإن قسم التراب قسمين جاز نظير ما مر في فصل الكمين عن القميص بعد تنجس أحدهما ( وبرمل فيه غبار ) لا يلصق بالعضو خشنا كان أو ناعما لأنه من جملة التراب إذ هو من طبقات الأرض .
وفي فتاوى المصنف : لو سحق الرمل الصرف وصار له غبار أجزأ : أي بأن صار كله بالسحق غبارا أو بقي منه خشن لا يمنع لصوق الغبار بالعضو حتى لا ينافي ذلك ما يأتي قال بخلاف الحجر المسحوق ، وقد يؤيده قول الماوردي : الرمل ضربان : ما له غبار فيجوز به لأنه من جنس التراب ، وما لا غبار له فلا لعدم التراب لا لخروجه عن جنس التراب ا هـ .
إذ ظاهره أنه تراب حقيقة وإن لم يكن له غبار .
أما إذا لصق الرمل الذي له غبار فلا يصح التيمم به ، وعلى هذا التفصيل يحمل ما وقع في كتب المصنف من إطلاق الإجزاء وإطلاق عدمه ، وفي المجموع ما يدل عليه ، وعلم مما قررناه أن إناطتهم الحكم بالناعم والخشن الغالب ، ولا ينافي ذلك إعادة الباء المفيدة لمغايرة الرمل للتراب لأنه بالنظر لصورة الرمل قبل السحق .
نعم التيمم حقيقة إنما هو بالغبار الذي صار ترابا لا بالرمل ، ففي العبارة نوع قلب وهو مما تؤثره الفصحاء لأغراض لا يبعد قصد بعضها هنا ( لا بمعدن ) بكسر الدال كنورة ونفط وكبريت ( وسحاقة خزف ) [ ص: 293 ] لأن ذلك لا يسمى ترابا ، والخزف : ما اتخذ من الطين وشوي فصار فخارا واحدته خزفة ( ومختلط بدقيق ونحوه ) مما يعلق باليد كزعفران وجص لمنعه من تعميم العضو بالتراب ، بخلاف الرمل إذا خالطه التراب على ما مر وسواء أقل الخليط أم كثر ( وقيل إن قل الخليط جاز ) كالمائع القليل إذا اختلط بالماء فإن الغلبة تصير المنغمر القليل عدما .
وأجاب الأول بأن المائع لا يمنع من وصول الماء إلى البشرة للطافته ، والدقيق ونحوه يمنع وصول التراب إلى المحل الذي يعلق به لكثافته ، والأرجح على هذا القول ضبط القليل هنا باعتبار الأوصاف الثلاثة كما في الماء ( ولا ب ) تراب ( مستعمل على الصحيح ) لأنه أدي به فرض وعبادة فكان مستعملا كالماء الذي توضأت به المستحاضة .
والثاني يجوز لأنه لا يرفع الحدث فلا يتأثر بالاستعمال ( وهو ) أي المستعمل ( ما بقي بعضوه ) حالة تيممه ( وكذا ما تناثر ) بالمثلثة بعد إمساسه العضو حالة تيممه ( في الأصح ) كالماء المتقاطر من طهارته .
والثاني لا يكون مستعملا لأن التراب كثيف إذا علق منه شيء بالمحل منع غيره أن يلتصق به ، وإذا لم يلتصق به فلا يؤثر ، [ ص: 294 ] بخلاف الماء فإنه رقيق يلاقي جميع المحل وهذا الوجه ضعيف أو غلط ، أما الذي تناثر ولم يحصل به إمساس العضو فليس بمستعمل كالباقي على الأرض ، وقول الرافعي : وإنما يثبت للمتناثر حكم الاستعمال إذا انفصل بالكلية وأعرض المتيمم عنه معناه أنه انفصل عن اليد الماسحة والممسوح جميعا وعبارته : وإن قلنا إن المتناثر مستعمل فإنما يثبت له حكم الاستعمال إذا انفصل بالكلية وأعرض المتيمم عنه ، لأن في إيصال التراب إلى الأعضاء عسرا لا سيما مع رعاية الاقتصار على ضربتين فيعذر في رفع اليد وردها كما يعذر في التقاذف الذي يغلب في الماء ولا يحكم باستعمال المتقاذف .
وما فهمه الإسنوي من كلامه ورتب عليه أنه لو أخذه من الهواء قبل إعراضه عنه وتيمم به جاز ممنوع ، وعلم من حصر المستعمل فيما ذكر أنه لو تيمم واحد أو جماعة مرات كثيرة من تراب يسير في نحو خرقة جاز حيث لم يتناثر إليه شيء مما ذكر كما يجوز الوضوء متكررا من إناء واحد .


