الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : والحمار والبغل مشكوك ) أي سؤرهما مشكوك فيه هذه عبارة أكثر مشايخنا وأبو طاهر الدباس أنكر أن يكون شيء من أحكام الله تعالى مشكوكا فيه وقال سؤر : الحمار طاهر لو غمس فيه الثوب جازت الصلاة معه إلا أنه محتاط فيه فأمر بالجمع بينه وبين التيمم ومنع منه حالة القدرة والمشايخ قالوا المراد بالشك التوقف لتعارض الأدلة لا أن يعني بكونه مشكوكا الجهل بحكم الشرع ; لأن حكمه معلوم ، وهو وجوب الاستعمال وانتفاء النجاسة وضم التيمم إليه ، والقول بالتوقف عند تعارض الأدلة دليل العلم وغاية الورع وبيان التعارض على ما في المبسوط تعارض الأخبار في أكل لحمه ، فإنه روي { أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر } وروى غالب بن أبجر قال لم يبق لي مال إلا حميرات فقال عليه السلام { كل من سمين مالك } قال شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه ، وهذا لا يقوى ; لأن لحمه حرام بلا إشكال ; لأنه اجتمع المحرم والمبيح فغلب المحرم على المبيح كما لو أخبر عدل بأن هذا اللحم ذبيحة مجوسي والآخر أنه ذبيحة مسلم لا يحل أكله لغلبة الحرمة فكان لحمه حراما بلا إشكال ، ولعابه متولد منه فيكون نجسا بلا إشكال

                                                                                        وقيل سبب الإشكال اختلاف الصحابة ، فإنه روي عن ابن عمر أنه كان يكره التوضؤ بسؤر الحمار والبغل وعن ابن عباس أنه قال الحمار : يعلف القت والتبن فسؤره طاهر قال شيخ الإسلام : وهذا لا يقوى أيضا ; لأن الاختلاف في طهارة الماء ونجاسته لا يوجب الإشكال كما في إناء أخبر عدل أنه طاهر وآخر أنه نجس فالماء لا يصير مشكلا ، وقد استوى الخبران وبقي العبرة بالأصل ، فكذا هاهنا ، ولكن الأصح في التمسك أن دليل الشك هو التردد في الضرورة ، فإن الحمار يربط في الدور والأفنية فيشرب من الأواني وللضرورة أثر في إسقاط النجاسة كما في الهرة والفأرة إلا أن الضرورة في الحمار دون الضرورة فيهما لدخولهما مضايق البيت بخلاف الحمار ، ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلا كما في الكلب والسباع لوجب الحكم بالنجاسة بلا إشكال

                                                                                        ولو كانت الضرورة مثل الضرورة فيهما لوجب الحكم بإسقاط النجاسة فلما ثبتت الضرورة من وجه دون وجه واستوى ما يوجب النجاسة والطهارة تساقطا للتعارض فوجب المصير إلى الأصل والأصل هاهنا شيئان الطهارة في جانب الماء والنجاسة في جانب اللعاب ; لأن لعابه نجس كما بينا وليس أحدهما بأولى من الآخر فبقي الأمر مشكلا نجسا من وجه طاهرا من وجه فكان الإشكال عند علمائنا بهذا الطريق لا للإشكال في لحمه ولا لاختلاف الصحابة في سؤره وبهذا التقرير يندفع كثير من الأسئلة منها أن المحرم والمبيح إذا اجتمعا يغلب المحرم احتياطا وجوابه أن القول بالاحتياط إنما يكون في ترجيح الحرمة في غير هذا الموضع أما هاهنا الاحتياط في إثبات الشك ; لأنا إن رجحنا الحرمة للاحتياط يلزم ترك العمل بالاحتياط ; لأنه حينئذ لا يجوز استعمال سؤر الحمار مع احتمال كونه مطهرا باعتبار الشك فكان متيمما عند وجود الماء في أحد الوجهين وذلك حرام فلا يكون عملا بالاحتياط ولا بالمباح وما قيل إن في تغليب الحرمة تقليل النسخ فذلك في تعارض النصين لا في الضرورة

                                                                                        ومنها أن يقال لما وقع التعارض في سؤره وجب المصير إلى الخلف ، وهو التيمم كمن له إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس فاشتبه عليه ، فإنه يسقط استعمال الماء ويجب التيمم فكذا [ ص: 141 ] هاهنا قلنا الماء هاهنا طاهر لما ذكرنا أن قضية الشك أن يبقى كل واحد على حاله ولم يزل الحدث ; لأنه لما كان ثابتا بيقين فيبقى إلى أن يوجد المزيل بيقين والماء طاهر ووقع الشك في طهوريته فلا يسقط استعماله بالشك بخلاف الإناءين ، فإن أحدهما نجس يقينا والآخر طاهر يقينا لكنه عجز عن استعماله لعدم عمله فيصار إلى الخلف ومنها أن التعارض لا يوجب الشك كما في إخبار عدلين بالطهارة والنجاسة حيث يتوضأ بلا تيمم قلنا في تعارض الخبرين وجب تساقطهما فرجحنا كون الماء مطهرا باستصحاب الحال والماء كان مطهرا قبله وهاهنا تعارض جهتا الضرورة فتساقطتا فأيقنا ما كان على ما كان أيضا إلا أن هاهنا ما كان ثابتا على حاله قبل التعارض شيئان جانب الماء وجانب اللعاب وليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب الشك .

                                                                                        ومنها ما قيل في استعمال الماء ترك العمل بالاحتياط من وجه آخر ; لأنه إن كان نجسا فقد تنجس العضو قلنا أما على القول بأن الشك في الطهورية فظاهر وأما على القول المرجوح من أن الشك في كونه طاهرا ، فالجواب أن العضو طاهر بيقين فلا يتنجس بالشك والحدث ثابت بيقين فلا يزول بالشك فيجب ضم التيمم إليه كذا في معراج الدراية وغيره وفي الكافي ولم يتعارض الخبران في سؤر الهرة إذ قوله صلى الله عليه وسلم { الهرة سبع } لا يقتضي نجاسة السؤر لما قدمنا ا هـ .

                                                                                        ثم اختلف مشايخنا فقيل الشك في طهارته وقيل في طهوريته وقيل فيهما جميعا والأصح أنه في طهوريته ، وهو قول الجمهور كذا في الكافي هذا مع اتفاقهم أنه على ظاهر الرواية لا ينجس الثوب والبدن والماء ولا يرفع الحدث ; فلهذا قال في كشف الأسرار شرح أصول فخر الإسلام إن الاختلاف لفظي ; لأن من قال الشك في طهوريته لا في طهارته أراد أن الطاهر لا يتنجس به ووجب الجمع بينه وبين التراب لا أن ليس في طهارته شك أصلا ; لأن الشك في طهوريته إنما نشأ من الشك في طهارته لتعارض الأدلة في طهارته ونجاسته ا هـ .

                                                                                        وبهذا التقرير علم ضعف ما استدل به في الهداية لقول من قال الشك في طهوريته بأن لو وجد الماء المطلق لا يجب عليه غسل رأسه ، فإن وجوب غسله إنما يثبت بتيقن النجاسة والثابت الشك فيها فلا يتنجس الرأس بالشك فلا يجب وعلم أيضا ضعف ما في فتاوى قاضي خان تفريعا على كون الشك في طهارته أنه لو وقع في الماء القليل أفسده ; لأنه لا إفساد بالشك وفي المحيط تفريعا على الشك في طهوريته أنه لو وقع في الماء يجوز التوضؤ به ما لم يغلب عليه ; لأنه طاهر غير طهور كالماء المستعمل عند محمد ا هـ .

                                                                                        وكان الوجه أن يقول ما لم يساوه لما علمته في مسألة الفساقي وقد قدمنا حكم عرقه .

                                                                                        [ ص: 141 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 141 ] ( قوله : لا يقتضي نجاسة السؤر لما قدمنا ) أي من سقوطها للضرورة ( قوله : بأنه لو وجد الماء المطلق إلخ ) بيانه كما في بعض الشروح أن من توضأ بالسؤر المشكوك إذا أحدث فقد حل الحدث بالرأس أيضا ، فإذا توضأ بعده بالماء المطلق ومسح رأسه تكون بلة الماء المطلق على رأسه مشكوكا أيضا لإصابته إياه فلا يرفع الحدث المتيقن ; لأنه مشكوك ، والشك لا يرفع اليقين فيجب غسل رأسه لهذا المعنى فلما لم يجب دل على أن الشك في طهوريته لا في طهارته ( قوله : وعلم أيضا ضعف ما في فتاوى قاضي خان إلخ ) قال في النهر لقائل أن يمنع قوله ; لأن الشك إلخ بأن الشك في الطهورية لا يستلزم الشك في الطهارة بخلاف العكس كما هو ظاهر فما في الخانية له وجه وجيه ا هـ .

                                                                                        لكن قول المؤلف ; لأنه لا إفساد بالشك بقي وارد ; لأنه حيث حكم عليه بالشك في الطهارة كيف يفسد الماء الثابتة طهارته بيقين على أنه مخالف لما ذكره المؤلف أولا من اتفاقهم أنه على ظاهر الرواية لا ينجس الماء اللهم إلا أن يراد بما في الخانية من أنه يفسد الماء أي يرفع طهوريته تأمل ثم رأيت التصريح بهذا للتأويل في التتارخانية معزيا إلى بعض المشايخ .




                                                                                        الخدمات العلمية