( حكي ) أن خطب على الناس في أول خلافته وكانت من أول خطبة فقال لهم : أوصيكم بتقوى الله ، فإنه لا يقبل غيرها ولا يرحب إلا أهلها ، وقد كان قوم من الولاة منعوا الحق حتى اشترى منهم شراء وبذلوا الباطل حتى افتدى منهم فداء ، والله لولا سنة من الحق أميتت فأحييتها وسنة من الباطل أحييت فأمتها ما باليت أن أعيش وقتا واحدا . أصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم ، إن امرأ ليس بينه وبين عمر بن عبد العزيز آدم إلا الموت لمعرق له في الموت .
والقسم الثاني : جور العمال فيما يجبونه من الأموال فيرجع فيه إلى القوانين العاذلة في دواوين الأئمة فيحمل الناس عليها ويأخذ العمال بها وينظر فيما استزادوه ، فإن رفعوه إلى بيت المال أمر برده ، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه .
( فقد حكي ) عن المهتدي رضي الله عنه أنه جلس يوما للمظالم فرفعت إليه قصص في الكسور فسأل عنها ، فقال : كان سليمان بن وهب رضي الله عنه قسط الخراج على أهل السواد وما فتح من نواحي المشرق والمغرب ورقا وعينا وكانت الدراهم والدنانير مضروبة على وزن عمر بن الخطاب كسرى وقيصر ، وكان أهل البلدان يؤدون ما في أيديهم من المال عددا ولا ينظرون في فضل بعض الأوزان على بعض ، ثم فسد الناس فصار أرباب الخراج يؤدون الطبرية التي هي أربعة دوانق وتمسكوا بالوافي الذي وزنه وزن المثقال ، فلما ولي زياد العراق طالب بأداء الوافي وألزمهم الكسور وجار فيه عمال بني أمية ، إلى أن ولي ، فنظر بين الوزنين وقدر [ ص: 102 ] وزن الدراهم على نصف وخمس المثقال وترك المثقال على حاله ، ثم إن عبد الملك بن مروان من بعده أعاد المطالبة بالكسور حتى أسقطها الحجاج وأعادها من بعده إلى أيام عمر بن عبد العزيز المنصور إلى أن خرب السواد فأزال المنصور الخراج عن الحنطة والشعير ورقا وصيره مقاسمة وهما أكثر غلات السواد وأبقى اليسير من الحبوب والنخل والشجر على رسم الخراج وهو كما يلزمون الآن الكسور والمؤن : فقال المهتدي معاذ الله أن ألزم الناس ظلما تقدم العمل به أو تأخر ، أسقطوه عن الناس ، فقال إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من أموال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم ، فقال الحسن بن مخلد المهتدي علي أن أقرر حقا وأزيل ظلما وإن أجحف بيت المال .
والقسم الثالث : كتاب الدواوين لأنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه له ويوفونه منه أعاده ; فيتصفح أحوال ما وكل إليهم ، فإن عدلوا بحق من دخل أو خرج إلى زيادة أو نقصان إلى قوانينه وقابل على تجاوزه .
( حكي ) أن المنصور رضي الله عنه بلغه عن جماعة من كتاب دواوينه زوروا فيه وغيروا فأمر بإحضارهم وتقدم تأديبهم ، فقال حدث منهم وهو يضرب . ( من الوافر ) :
أطال الله عمرك في صلاح وعز يا أمير المؤمنينا بعفوك نستجير فإن تجزنا
فإنك عصمة للعالمينا ونحن الكاتبون وقد أسأنا
فهبنا للكرام الكاتبينا
والقسم الرابع : تظلم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخرها عنهم وإجحاف النظر بهم فيرجع إلى ديوانه في فرض العطاء العادل فيجريهم عليه وينظر فيما نقصوه أو منعوه من قبل ، فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه منهم ، وإن لم يأخذوه قضاه من بيت المال . [ ص: 103 ] كتب بعض ولاة الأجناد إلى أن الجند شعبوا ونهبوا ، فكتب إليه لو عدلت لم يشعبوا ، ولو وفيت لم ينهبوا ، وعزله عنهم وأدر عليهم أرزاقهم . المأمون
والقسم الخامس : رد الغصوب ، وهي ضربان أحدهما غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور كالأملاك المقبوضة عن أربابها ، إما لرغبة فيها ، وإما لتعد على أهلها ، فهذا إن علم به والي المظالم عند تصفح الأمور أمر برده قبل التظلم إليه ، وإن لم يعلم به فهو موقوف على تظلم أربابه ، ويجوز أن يرجع فيه عند تظلمهم إلى ديوان السلطنة فإذا وجد فيه ذكر قبضها على مالكها عمل عليه وأمر بردها إليه ولم يحتج إلى بينة تشهد به وكان ما وجده في الديوان كافيا .
كما حكي أن رحمه الله خرج ذات يوم إلى الصلاة فصادفه رجل ورد من عمر بن عبد العزيز اليمن متظلما فقال . ( من البسيط ) :
تدعون حيران مظلوما ببابكم فقد أتاك بعيد الدار مظلوم
والضرب الثاني : من الغصوب ما تغلب عليها ذوو الأيدي القوية وتصرفوا فيه تصرف الملاك بالقهر والغلبة ، فهذا موقوف على تظلم أربابه ولا ينتزع من يد غاصبه إلا بأحد أربعة أمور ، إما باعتراف الغاصب وإقراره ، إما بعلم والي المظالم فيجوز له أن يحكم عليه لعلمه ، وإما ببينة تشهد على الغاصب بغصبه أو تشهد للمغصوب منه بملكه ، وإما بتظاهر الأخبار الذي ينفي عنها التواطؤ ، ولا يختلج فيها الشكوك لأنه لما جاز للشهود أن يشهدوا في الأملاك بتظاهر الأخبار كان حكم ولاة المظالم بذلك أحق .
والقسم السادس : مشارفة الوقوف وهي ضربان : عامة وخاصة ، فأما العامة فيبدأ بتصفحها وإن لم يكن فيها متظلم ليجريها على سبيلها ويمضيها على [ ص: 104 ] شروط واقفها إذا عرفها من أحد ثلاثة أوجه : إما من دواوين الحكام المندوبين لحراسة الأحكام ، وإما من دواوين السلطنة على ما جرى فيها من معاملة أو ثبت لها من ذكر وتسمية ، وإما من كتب فيها قديمة تقع في النفس صحتها وإن لم يشهد الشهود بها لأنه ليس يتعين الخصم فيها فكان الحكم أوسع منه في الوقوف الخاصة .
وأما الوقوف الخاصة فإن نظره فيها موقوف على تظلم أهلها عند التنازع فيها لوقفها على خصوم متعينين فيعمل عند التشاجر فيها على ما تثبت به الحقوق عند الحاكم ولا يجوز أن يرجع إلى ديوان السلطنة ولا إلى ما يثبت من ذكرها في الكتب القديمة إذا لم يشهد بها شهود معدلون .
والقسم السابع : تنفيذ ما وقف القضاة من أحكامها لضعفهم عن إنفاذها وعجزهم عن المحكوم عليه لتعززه وقوة يده أو لعلو قدره وعظم خطره ، فيكون ناظر المظالم أقوى يدا وأنفذ أمرا فينفذ الحكم على من توجه إليه بانتزاع ما في يده أو بإلزامه الخروج مما في ذمته .
والقسم الثامن : النظر فيما عجز عنه الناظرون من الحسبة في المصالح العامة ، كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه والتعدي في طريق عجز عن منعه والتحيف في حق لم يقدر على رده فيأخذهم بحق الله تعالى في جميعه ويأمر بحملهم على موجبه .
والقسم التاسع : مراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والأعياد والحج والجهاد من تقصير فيها وإخلال بشروطها فإن حقوق الله أولى أن تستوفى وفروضه أحق أن تؤدى .
والقسم العاشر : النظر بين المتشاجرين والحكم بين المتنازعين فلا يخرج في النظر بينهم عن موجب الحق ومقتضاه ، ولا يسوغ أن يحكم بينهم إلا بما يحكم به الحكام والقضاة وربما اشتبه حكم المظالم على الناظرين فيها فيجورون في أحكامها ويخرجون إلى الحد الذي لا يسوغ فيها