الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في الرجل يشتري صدقته أو هبته أو عريته، والأب يشتري ما تصدق به على ولده أو وهبه

                                                                                                                                                                                        وقال مالك: ولا يشتري الرجل صدقته من المتصدق عليه ولا من غيره ، والأصل في هذا حديث عمر - رضي الله عنه - قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان له عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أنه بائعه برخص، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لنا مثل السوء; العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" .

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في خمسة مواضع: أحدها: هل النهي على الوجوب أو الندب؟ والثاني: هل النهي عن الشراء من المتصدق عليه خاصة، أو منه وممن صارت إليه؟ والثالث: هل تدخل في ذلك الصدقات الواجبة كالزكاة؟ والرابع: هل الهبة في ذلك كالصدقة؟ والخامس: هل عطية المنافع كالعرية أو [ ص: 3474 ] العرية كالرقاب؟ فالمشهور من المذهب أن النهي في ذلك على الندب، قال مالك: لا ينبغي أن يشتريها، وقال: يكره . وقال الداودي: ذلك حرام. فعلى القول الأول: إذا نزل مضى، وعلى القول الآخر يفسخ، وظاهر ما في كتاب محمد أنه لا يجوز، والأول أحسن; لأن المثل ضرب لنا بما ليس بحرام على فاعله; لأنه ليس بمخاطب، وقال مالك في كتاب الزكاة: لا يشتري الرجل صدقة حائطه ولا زرعه ولا ماشيته، وذكر عن عمر وابن عمر وجابر أنهم كرهوا ذلك .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في كتاب النذور: كره مالك للرجل أن يشتري صدقة التطوع فهذا أشد كراهية . وقال يحيى بن سعيد: من الناس من لا يرى بذلك بأسا . وفي البخاري قال طاوس: قال: معاذ لأهل اليمن: إيتوني بعرض من ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة .

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد القول ألا يفعل إذا نزل هل يجزئه؟ وأرى أن تجزئ قياسا على التطوع، وإن كان لا ينبغي ذلك ابتداء، ولا يتبع نفسه شيئا أخرجه لوجه الله -عز وجل-، فيرده إلى ملكه، وأعظم لأجره ألا يعود إليه، وقد رثى النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة أن مات بمكة في وطنه ; لأن موته في الموضع الذي هاجر إليه [ ص: 3475 ] متغربا- أعظم لأجره.

                                                                                                                                                                                        وأما الهبة، فقال مالك في كتاب محمد فيمن حمل على فرس، قال: إن لم يكن للسبيل ولا للمسكنة فلا بأس أن يشتريه . يريد: إن لم يكن صدقة. وقال أبو محمد عبد الوهاب: يكره ذلك ; لأن الموهوب أو المتصدق عليه قد يستحي فيسامحه فيها، فيكون رجوعا في ذلك القدر، وهذا أحسن، وليس من مكارم الأخلاق أن يرجع في هبته، وإن كانت الصدقة أبين.

                                                                                                                                                                                        وأما إن لم يكن ذلك لرغبة من المتصدق ولا من الواهب، وإنما هو بسؤال من المتصدق عليه أو من الموهوب له- جاز له; لأن ذلك يرجع إلى أنه معروف ثان، ومكارمة من المهدي، وقد أهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - خميصة لها أعلام ثم ردها إلى صاحبها لما ألهته أعلامها في الصلاة ، وكذلك فعل معاذ، لم يكن بحرص من المعطي على بقاء الأول، وإنما كان ذلك طلبا لرضا المعطى، وقد يستخف هذا في الهبة دون الصدقة.

                                                                                                                                                                                        ويختلف في العارية والعرية، وإذا أخدم عبدا أو أسكن دارا أو غير ذلك [ ص: 3476 ] من إعطاء المنافع، فقال ابن المواز: كل من تصدق بغلة سنين ولم يبتل الأصل فلا بأس أن يشتري المتصدق ذلك، وإن كان له الأصل، قال: وأبى ذلك عبد الملك واحتج بالحديث في النهي عن الرجوع في الصدقة، وأجاز لورثته أن يشتروا المراجع، قال محمد: والحجة لمالك ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العرية فهي أعم فيما بتل أصله وأرخص العرية . وقول عبد الملك هو الأصل، ولا فرق بين الرجوع في الرقاب أو المنافع، وكل ذلك داخل في النهي عن أن يعود في الصدقة، ولم يخص.

                                                                                                                                                                                        وأما العرية فإنما أجيزت لأنها على وجه المعروف، يضمنها ويكفيه مؤونتها، فهي معروف ثان. وقيل: على وجه دفع الضرر، والضرورات تنقل الأحكام، وقد أجاز بعض أصحاب مالك في النخلة تكون في الحائط يشتريها بخرصها لدفع الضرر ، ولو اعترف المعري أنه يشتريها لرغبة في الشراء لا لإرادة معروف ولا لرفع ضرر- لم يجز.

                                                                                                                                                                                        وقد تكون العرية على وجه الهبة فيكون ذلك أخف، وقد منع ابن القاسم في المدونة من تصدق بصدقة أن يأكل من ثمرتها أو يركبها أو ينتفع بشيء منها ، فإذا منع أن ينتفع بالغلات كان بينا إذا كانت الغلات هي المتصدق بها أن يمنع من الانتفاع بها. [ ص: 3477 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية