الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في إقرار بعض الورثة أن الميت أعتق عبدا

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا أقر بعض ولد الميت أن أباه أعتق هذا العبد وأنكر ذلك بقية الورثة ، فقال مالك : لا يقبل قوله ويكون حظه من ذلك العبد رقيقا . قال مالك في كتاب محمد : وسواء كان من العبيد الذين لا ينقص عتق بعضه من ثمن ما بقي منه أو ينقصه ولا يعتق على الشاهد منه شيء قيل له : إنه وارث قال : هو شاهد . قال مالك : ويستحب للذي أقر أن يبيع نصيبه من ذلك العبد ، ويجعله في رقبة إن بلغ ويعتقها عن أبيه ، فإن لم يبلغ شارك به والولاء لأبيه ، فإن لم يجد أعان به في كتابة مكاتب . قال : ولا يقضى بذلك عليه . قال مالك : في كتاب محمد : لأنه لا أدري أصدق أم لا؟

                                                                                                                                                                                        قال ابن القاسم : ولو ترك الميت عبدين أو ولدين فأقر أحدهما أن أباه أعتق هذا العبد ، وقال الآخر بل أعتق هذا العبد ، والثلث يحملهما أو لا يحملهما ، فإنه يقسم الرقيق فمن صار إليه العبد الذي أقر بعتقه عتق عليه ما [ ص: 3873 ] يحمل الثلث منه ، وإن صار لصاحبه أخرج نصف قيمة ذلك العبد إذا كان الثلث يحمله فيجعله في رقبة أو في بعضها أو يعين به مكاتبا .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه - : اختلف في هذه الوجوه الثلاثة فيما إذا أقر أحدهما أن أباه أعتق عبدا هل يعتق نصيب المقر أم لا ؟ وإذا لم يعتق هل يؤمر ببيع نصيبه؟ وإذا كانا عبدين هل يعتق على المقر إذا صار إليه ما حمل منه الثلث؟ أو يعتق في ثلث جميع تركة الميت؟ وإنما ينظر إلى ثلث ما في يديه ، فقال في المدونة : إذا أقر أحدهما لم يجز إقراره وكان نصيبه رقيقا . وقيل : يجوز إقراره على نفسه ويعتق نصيبه خاصة . وقيل يعتق نصيبه ويستكمل عليه أنصباء شركائه; لأنه يتهم أن يكون العتق منه وينسب ذلك إلى الميت .

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد القول إن نصيبه رقيق هل ذلك لحق الورثة لأنه يدخل عليهم بإقراره عيبا ، أو لأن ذلك حقا لله تعالى; لأنه يؤدي إلى عتق من غير استكمال؟ فجعل في المدونة أنه لحق الشركاء ، ورد قوله مع بقاء الشركة ، وأجازه إذا كانا عبدين فاقتسماهما فصار إليه وأعتق منه ما حمل الثلث; لأن [ ص: 3874 ] عتق البعض عيب في بقيته فلم يكن إقراره يدخل عليهم عيبا ، وعلى هذا إذا كان عتق نصيبه لا ينقص الثمن أو ينقصه ودفع إليهم قيمة العبد أن يجوز إقراره وإن كره شركاؤه ، وكذلك إن رضي الشركاء بالعيب .

                                                                                                                                                                                        وقيل : إنما لم يجز إقراره; لأن هذا يؤدي إلى عتق البعض من غير استكمال ، وإلى إبطال ما جاء في ذلك من الحديث ، ويؤيد ذلك قول مالك في كتاب محمد : إنه لا يمضي عتق نصيب المقر وإن كان ذلك لا ينقص ثمن ما بقي . وعلى هذا لا يعتق نصيب المقر وإن صار ذلك العبد إليه في قسمته إذا كان لا يحمله الثلث .

                                                                                                                                                                                        والقول : إنه يمضي العتق في نصيبه أحسن سواء نقصه العتق أو لم ينقصه; لأن ذلك مما لا يتهم فيه الإنسان ، ودخول العيب أهون من الاسترقاق بالشك ، وللعتق حرمة ، وقد قال ابن القاسم مرة في إقرار أحد الشريكين على صاحبه أنه أعتق نصيبه وهو موسر : إنه يعتق نصيب الشاهد . فهو في هذا أحرى أن يعتق نصيبه ، ولو كنت أقول إنه لا يعتق نصيب المقر لم آمره [ ص: 3875 ] بالبيع ، وكيف يندب إلى بيع ما هو مقر به أنه حر؟!

                                                                                                                                                                                        ولو دعا إلى ذلك دون بقية الورثة لم أمكنه منه .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد : يقال للمقر إن كنت صادقا فلا تختدمه في يومك ، وإن بعتم فخذ الثمن فاجعله في رقبة من غير حكم . ومحمل قوله "إن بعتم" أي : إذا دعا إلى ذلك غيره من الورثة . وأرى أن يحكم عليه ألا يستخدمه في يومه; لأنه لم يرجع عن قوله ، ومحمله فيما بينه وبين العبد على الصدق إلا أن يرجع عن ذلك ويأتي في ذلك بعذر .

                                                                                                                                                                                        وأما إذا صار ذلك العبد إلى المقر بالمقاسمة وكان قيمة كل عبد من هذين العبدين مائة مائة وخلف الميت مائة غيرهما ، فإنه يعتق جميعه ، وهو قول ابن القاسم في كتاب محمد ، وهو ظاهر قوله في المدونة; لأن من صار إليه ذلك العبد مقر أن الثلث يحمله وأن الحكم أن يخرج حرا ، ويكون الموروث عن الميت العبد الآخر والمائة ، وأخوه ظلمه بإمساكه عنه نصف العبد الآخر . [ ص: 3876 ]

                                                                                                                                                                                        وأصل مالك وأشهب في كتاب محمد أنه لا يعتق منه إلا نصفه وما صار إلى الأخ فهو عنده غصب على التركة قبل المقاسمة وإن كان الميت لم يتركه ، فإذا صار إليه العبد وخمسون دينارا فثلثه للميت معه خمسون وهي نصف العبد . قالا ذلك فيمن قال : أعتق أبي هذا العبد ، ثم قال : بل هذا ، ثم قال في ثالث : بل هذا . إنه يعتق الأول ويعتق من الثاني ثلث قيمة الاثنين ويعتق من الثالث تسع الثلث . وقال ابن القاسم : يعتق الثلاثة إذا كانت قيمتهم سواء . وقد قيل في هذا الأصل : إن الذي غصبه الأخ على الأخ المقر وعلى العبد جميعا بالسواء ; لأن حظ الأخ من مال الميت مائة وحظ العبد مثل ذلك ، فيقسمان المائة وخمسين نصفين فيعتق ثلاثة أرباع العبد . [ ص: 3877 ]

                                                                                                                                                                                        قال محمد : ولو أقر أحد الولدين بعبد نصفه حر أن أباه عتقه لجاز إقراره في نصيبه ، ولو لم يكن فيه شيء عتيق فقال أحدهما : أعتق أبي نصفه وقال الآخر : أعتقه كله ، والثلث يحمله ، فإنه يعتق ثلاثة أرباعه ، ربعه على من قال : أعتق نصفه ، ونصفه على من قال : أعتقه كله . وهذا إنما يصح على قول من قال : إنه إنما يرد إقرار أحد الورثة لدخول العيب على بقية الورثة ، فإذا اجتمعا على أنه قد كان من الميت عتق سقط المقال في عيب العتق . وأما على القول إن رد الإقرار لأنه لا يقدر أن يقيم البينة في الاستكمال ، فإنه لا يجيز إقرارهما ويبقى جميعه رقيقا ، ومثله لو قال أحدهما : أعتق أبي جميعه في صحته ، وقال الآخر : جميعه في مرضه والثلث يحمله ، فإنه يعتق ثلاثة أرباعه - على ما قاله محمد- ربعه على من قال : نصفه في الصحة ، ونصفه على من قال : جميعه في المرض .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية